وهناك قولان في المسألة، لكن جرت العادة أننا عندما نذكر قولين فإننا نذكر أساليب الترجيح، فنقول: هذا عنده أدله وهذا عند أدله، ونقول مثلا: ً قال فلان: هذا هو الراجح، وقد يكون عند غيره راجح آخر صحيح.
أما هذان القولان فأبدأ بالقول الباطل، وهو موجود واعتقاده كفر، فأنا أسوقه من باب التحذير، والرد على من قال به، وهو في عينه كفر، فقد فهم قوم من هذا الحديث (كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به) ويسمون الاتحادية، وهم القائلون بوحدة الوجود، يقولون: إن الحق جل وعلا هو عين العبد، يعني: أن الله جل وعلا اتحد مع العبد فصارا عيناً واحدة، والقول بهذا كفر مخرج من الملة، تعالى الله جل وعلا عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وحجتهم هذا الحديث، وحديث آخر أن جبريل كان يأتي في صورة دحية الكلبي، فيقولون -لا رحم الله فيهم مغرز إبره-: إن جبريل كان يحل في دحية الكلبي، وجبريل جسم رواحاني فحل في جسم بشري، فقالوا: إذا كان جبريل هذا صنعه فالله جل وعلا بزعمهم أعظم وأقدر من ذلك أن يحل في عبده.
وهذا باطل من عدة جهات، أولها: من الناحية العقلية إذا كان النقاش نقاشاً عقلياً: فجبريل عندما يحل في هيئة صورة دحية الكلبي، ويأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه، فمن الذي يكلم النبي؟ إنه جبريل، وأين دحية؟ موجود في بيته مع أبنائه، فـ دحية ماله علاقة إنما جاء جبريل هيئته، فـ دحية حي يرزق في بيته مع زوجته ومع أولاده، أو في متجره أو في سفره، فهو يغدو ويروح ويقابل شخصاً آخر، لكن جبريل هو الذي تشكل في هيئة دحية.
وأما دحية نفسه ما حل فيه جبريل ولا طلبه ولا دخل فيه، ولو دخل جبريل في دحية لمات دحية؛ فكيف يتنفس وكيف يأكل وكيف يشرب؟ لكن دحية موجود في بيته يغدو ويروح، وإنما جبريل عليه السلام أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، واختار صورة دحية؛ لأن دحية رضي الله عنه كان وسيماً جداً يدخل على الملوك، وهذا ملك جاء في صورة دحية، فحديث دحية لا يوجد فيه شيء مما قالوه ولا زعموه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث هذا الذي استشهدوا: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، إذاً فهناك سائل وهناك مسئول، وهناك مستعين وهناك من يعين، فكيف يقول هؤلاء الجهلة: إن الله جل وعلا يحل في أحد من خلقه!! فهذا يقوله من لم يعرف قدر الله أبداً، ومن جعل الأدلة والبراهين والحجج وراء ظهره، ومن تنكب طرق الشيطان عياذاً بالله وزعم أن معنى الحديث يكون بهذا التفسير، وهذا لا يقول به عاقل أبداً، هذا القول الأول.
والقول الحق: توفيق الله جل وعلا وتسديده للعبد بحفظ جوارحه من المعاصي، وتوفيقه للطاعات، وكل من يعرف أسلوب العرب في كلامها فإنه يعرف كيف يفهم هذا الحديث.
ولهذا كنا وما زلنا نقول: إن فهم القرآن والسنة من أعظم الطرائق الموصلة إليه: أن نفهم أسلوب العرب في كلامها؛ حتى نستطيع أن نفهم كلام ربنا، لأنه نزل بلغة العرب، ونفهم كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه عليه الصلاة السلام خير من تكلم بلغة العرب.
فالمقصود من الحديث التسديد والتوفيق من الرب جل وعلا، وحفظ الجوارح من معصية الله، وهذا -بحمد الله وفضله وتوفيقه- من أعظم المنن، وأجل العطايا، وأسخى الهبات التي يمكن أن يعطيها أحد.
(لئن سألني لأعطينه) هذا في تحقيق المرغوب، (ولئن اتسعاذني لأعيذنه) هذا في دفع المرهوب.