الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والمروآت، أما بعد: فهذا بحمد الله وتوفيقه استئناف لتعليقنا الموجز على كتاب الرقاق من صحيح البخاري رحمه الله تعالى، وكما جرت سنن الدرس من قبل أن يقرأ أخوكم ثم نعلق إن شاء الله تعالى على ما تلاه وقرأه، على أن بعض الأحاديث في هذه الليلة قد يكون فيها شيء من الطول، فتكون القراءة من قبل الشيخ عبد المجيد قراءة مجزأة؛ حتى يستقيم الشرح مع الجزء الذي سيشرح، فليتفضل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رفع الأمانة.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة)].
هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الرقاق عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، وحذيفة بن اليمان هو صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راوي الحديث المشهور في الفتن: (كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة السلام عن الخير، وأسأله عن الشر؛ مخافة أن أقع فيه).
وحسبك هنا أن تعلم أن هذا الحديث رواه صحابي له علاقة وطيدة جداً بالنبي عليه الصلاة والسلام، فهو صاحب سره، أي: أنه اطلع على أمور لم يطلع عليها الكثير من الصحابة، وقد عين له النبي عليه الصلاة والسلام أسماء المنافقين الذين كان يعلمهم عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا الحديث إخبار عن رفع الأمانة، وقد قسم ذلك إلى قسمين: فأول الحديث يتكلم عن نزولها، وآخر الحديث يتكلم عن رفعها، فقال في نزولها: إنها نزلت في جذر قلوب الرجال، وكلمة جذر: تقرأ جَذر وتقرأ جِذر، بالكسر والفتح، وكلاهما صحيح، ومعنى الجذر: الأصل من الشيء.
وفي هذا الإخبار أن هناك ثلاث طرائق جعلت بها الأمانة في قلوب الرجال: الطريق الأول: طريق الفطرة، وطريق الإلهام، وطريق الوضع الرباني المحض، وهذا معنى قوله: (نزلت في جذر قلوب الرجال) أي: في أصلها، فينشأ الإنسان والمرء فطرة على أنه أمين.
ثم قال: (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)، ويصح أن تقرأ: ثم علّموا القرآن، ثم علّموا السنة.
من هذا الحديث اخذ العلماء أن الأصل أن يتعلم الإنسان القرآن في الأول، ثم يتعلم السنة، وأن يفقه الإنسان القرآن ثم يفقه السنة، ولو تعلمهما متجاورين -أي: ليس هناك فارق زمن بعيد بينهما- فلا حرج، لكن ينبغي أن يتعلمها جميعاً احتياطاً أنه ظهر منذ القدم أقوام يقولون: يكتفى بالقرآن ولا حاجة للسنة، وفي عصرنا يسمون أنفسهم بالقرآنيين، ولكن هذه التسمية التي أطلقوها على أنفسهم غير صحيحة، لأن الرجل إذا فقه القرآن أصلاً علم أن من لوازم فقه القرآن أن يعلم السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، وقال: (إلا وإني أوتيت القرآن وما يعدله)، وفي رواية (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه)، وفي الحديث: (يوشك رجل شبعان متكئاً على أريكته يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه عملنا به، ومالم نجد فيه لا نعمل به) أي: كأنه ينبذ السنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن رجلاً يأتي لأمر إما أمر أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فهذا لا نجده في كتاب الله) أو كلمة نحوها.
فهؤلاء لم يوجدوا في زمن النبوة لكنهم وجدوا بعد ذلك، وقد حذر منهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وأول ما ظهرت نبتة هؤلاء القوم كان ذلك في زمن الشافعي، رحمه الله تعالى، ولذلك أفرد الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة باباً يخصهم، وذكر محاورة جرت له مع بعضهم، وكيف أقام رحمه الله الحجة عليهم، وأبان لهم الأمر، وأوضح لهم المحجة، فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء.
ثم ما زال هؤلاء القوم يكثرون في عصر ويقلون في عصر، فمن رام أن يحمل الناس على أن الدين ما في القرآن فقط، فهو يريد أن يحملهم على هدم الدين؛ لأنه لا يمكن أن يعرف القرآن إلا بالسنة، والقرآن جاء لتعظيم سنة صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية، والله جل وعلا يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
فإن قلنا: إن الفاعل في (دعاكم) هو النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر واضح، وإن قلنا: إن الضمير يعود على لفظ الجلالة، فما سلف من أول قوله جل وعلا: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24] معناه أن القرآن والسنة شيء واحد، ولا يجوز أبداً، بل عين الكفر أن يطالب الإنسان الناس العمل بما في القرآن فقط، وأن يطالبهم بترك السنة، وأنها لا حجة فيها.
وقد نشرت مقالات في أول هذا العصر في مجلة المنار التي كان يشرف عليها العلامة رشيد رضا رحمه الله، ذكرها رجل أظن أن اسمه توفيق أو ما أشبه ذلك، ولا يعنينا اسمه، وقد ذكر في عنوانها: القرآن هو الإسلام فقط، أي لا حاجة للسنة، وفي عصرنا هذا كما قلت يظهرون هاهنا وهناك، والمقصود من ذلك كله هدم الدين، لكن الحجة قائمة عليهم؛ لأن الدين لا يعلم إلا بالقرآن والسنة، لكن المنهجية العلمية تجعلنا نقول: نبدأ بالقرآن ثم بالسنة، فما أشكل علينا فهمه من القرآن نفهمه عن طريق السنة، ومثاله أن الله جل وعلا ذكر في القرآن أن القصر في الصلاة لا يكون إلا لسبب الخوف: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، لكن السنة بينت أن القصر في السفر يكون في الخوف وفي غير الخو، قال صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم).
وهذا هو المراد من قول حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة).
وطالب العلم الحق هو من يجمع بينهما، ولا سبيل إلى فهم القرآن إلا بالسنة، ولا سبيل إلى الأخذ بالسنة إلا بموجبات القرآن، والله أعلم.