قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجى أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا).
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل)].
نبدأ بالحديث الثاني؛ حتى نعلم سبب ارتباطه بالحديث الأول، فإذا جمعت المتنين وجدت أنه صلى الله عليه وسلم قال في المتن الأول: (القصد القصد)، وقال في الثاني: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)، والقصد فوق التفريط ودون الغلو، فإذا وقعت العبادة من العبد قصداً ليس فيها تفريط ولا غلو، فهذا يدفعه إلى عدم الإعياء والملل، فإذا لم يوجد الإعياء والملل وجد الاستمرار والمداومة، فهذا وجه الربط بين الحديثين، فقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، والمعنى الحرفي للحديث: أن العمل وإن كان مفضولاً فإنه يكون أحب إلى الله من العمل الفاضل إذا كان العمل الفاضل منقطعاً.
وصورة ذلك في الحياة اليومية، فرجل يداوم على صلاة الليل، ويصلي ثلاث ركعات كل ليلة دون انقطاع، لا ريب أن عمله هذا أحب إلى الله من رجل يصلي تسعاً أو عشراً أو عشرين ركعة ما بين الليلة وليال أخرى، يعني: يصلي ليلة عشرين ثم ينقطع ما شاء الله له أن ينقطع، ثم يعود فيصلي إحدى عشرة ثم ينقطع فترة طويلة، ثم يعود فيصلي ثلاثين، أو ما أشبه ذلك، فكله عمل صالح، لكن الأول أحب وأقرب إلى الرب تبارك وتعالى بنص كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم، هذا وجه الارتباط بين الحديثين.
نعود إلى الحديث الأول: هذا الحديث ينجم عنه إشكال معرفي، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يخلص أحد منكم من النار بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقد جاء في القرآن أن الله جل وعلا قال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فالآية أثبتت أن الجنة معلقة بالعمل، والحديث نفى العمل، فحاول الكثير من أهل العلم الجمع بينها ولا بد من الجمع قطعاً؛ لأن النبي لا يقول شيئاً متعارضاً، فذهب ابن الجوزي وغيره من العلماء إلى ذكر أسباب عدة سنذكر بعضها ثم نبين الأمر الصحيح وهو الأهم، قالوا: إن التوفيق للطاعات هو من رحمة الله.
وخرجوها تخريجاً آخر فقالوا: إن منافع العبد لسيده، فما يصنعه العبد من أعمال صالحة هي أصلاً لله تبارك وتعالى، فرحمة الله جل وعلا بقبولها هي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وهذه الأقوال ظاهرة الضعف لا تشفي غليلاً، والصواب أن يقال: إن المنفي في الحديث غير المثبت بالآية، فالحديث فيه نفي أن تكون الجنة عوضاً عن العمل، وأن تكون مقابل العمل، والآية تثبت أن العمل الصالح سبب في دخول الجنة، فالباء التي في الحديث باء العوض والمقابلة، وأما الباء التي في الآية فهي باء السبب، وسنخرج عن النص النبوي ونأتي بمثال في الدنيا حتى تتضح الصورة لك، فعندما تريد أن تذهب إلى البقال تشتري شيئاً، فتعطيه عشرة ريالات فيعطيك حاجتك، فهذه الحاجة ثمنها عشرة ريالات، فأصبحت العشرة مقابل الحاجة وعوضاً عنها، فتسمى معاوضة، وما البيع والشراء إلا معاوضة، وأما كون الجنة عوضاً عن العمل فلا؛ لأن الجنة أكبر من العمل، لكن السبب مسألة أخرى غير العوض، ومثال ذلك أن تأتي إلى إنسان بينك وبينه قرابة فتمنحه هديه أو مكافئة أو طعاماً، وهو لم يعطك شيئاً مقابل هذه الهدية، لكن كونه جاراً أو كونه قريباً سبب في أنك تهديه أو تكرمه، ففرق بين السبب والعوض، فالمثبت في الآية باء السببية، والمنفي في الحديث باء العوض، وقد نبه إلى هذا من العلماء ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة)، ونبه غيره، وهذا الأمر يتعلق بالصناعة النحوية أكثر من تعلقه بأي فن آخر من فنون العلم، ومن حيث الناحية العقدية فإن العمل بهذا التخريج في الحديث رد على طائفتين من الفرق الضالة، رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان بعمله لا يستحق الجنة؛ لأنهم يرون أنه أصلاً مجبور على العمل، فالجنة عندهم ليست ثواباً.
ورد على المعتزلة والقدرية الذين يقولون: إنه يجب على الله أن يدخلهم الجنة؛ لأنهم قدموا السبب، فأصبح هذا التخريج رد على طائفتين: على الجبرية وعلى القدرية والمعتزلة.
لكن من حيث الجملة قال بعض الصالحين: إن المؤمن يدخل الجنة برحمة الله، وينال منزله فيها بسبب عمله الصالح، وهذا تخريج قريب من الأول، وهو جملة سياغته العلمية صحيحة إلى حد كبير، قال الله جل وعلا: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
ثم بين في الحديث أن: (النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغدو والرواح وشيء من الدلجة)، يصح ضم اللام ويصح فتحها، والغدو: هو السير في أول النهار.
والرواح: هو السير في أول النصف الأول من الليل.
والدلجة: هو السير في الليل عموماً.
قال بعض أهل العلم: هذا فيه إشارة إلى طاعتين، وهما: الصيام وقيام الليل، فالصيام يستمر معك من أول النهار إلى آخر النهار وهو غروب الشمس، وأما قيام الليل فلا يمكن للإنسان أن يقوم الليل كله، تقول عائشة رضي الله عنها: (ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها)؛ ولهذا قال: (وشيء من الدلجة) أي: أن قيام الليل يكون في بعض الليل.
وأما النهار فلا يمكن صيامه إلا إذا صامه الإنسان كاملاً، لكنه ليس محصوراً في هاتين الطاعتين والعبادتين فقط، وإنما هذا تقريب وإشارة كما نص أهل العلم من قبل، وإنما المراد أن يسعى الإنسان في طاعة الرب تبارك وتعالى مع التسديد والمقاربة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (القصد القصد)، وقد بينا ارتباط هذا الحديث بالحديث الذي بعده وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).