الإنسان الذي حج إلى بيت الله سبحانه، وكذلك الذي صام شهر رمضان، وكذلك الذي صلى صلاة فريضة ثم بعد ذلك وقع منه -والعياذ بالله- أنه ارتد وكفر، فهل هذا العمل قد حبط ويلزمه أن يعيد ما صامه من رمضان مرةً ثانية، أو أن يعيد الحجة التي أداها قبل ذلك، أو أن يعيد الصلوات التي صلاها قبل ذلك؟ الراجح من كلام أهل العلم: أنه إذا ارتد ثم تاب إلى الله عز وجل بعد ذلك وأسلم فلا يجب عليه أن يعيد ما حجه في إسلامه قبل ذلك، فتجزئه حجته السابقة، وهذا اختيار الشافعي، وبه قال ابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، بل هو الصحيح في مذهب الإمام أحمد.
والمسألة مختلف فيها: فعند المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن الذي حج ثم ارتد يجب عليه إعادة الحج مرةً ثانية.
وعند الشافعي وابن حزم وهو قول في مذهب أحمد وهو الراجح والصحيح: أنه لا يلزمه إعادة الحج.
وهذا الخلاف مبني على آيتين في كتاب الله سبحانه وتعالى: فقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217] فذكر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم -وحاشا له أن يقع في ذلك- وللمؤمنين المسلمين بالتبع أنه من وقع في الردة حبط عمله، وذكر في الآية الأخرى القيد: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}، فدل على أنه يعمل بهذا القيد فيها، فالذي يحبط عمله ويكون من الخاسرين هو الذي ارتد عن دين الله سبحانه، فحبط عمله بردته مع وفاته على الردة.
إذاً: الآية فيها قيد أنه إذا كفر الإنسان والعياذ بالله ومات على ذلك الكفر فهذا هو الذي حبط عمله.
لكن الذي قد وقع في ذلك ثم تاب وحسن إسلامه فلا يقال: إنه من الخاسرين، فالذي من الخاسرين هو الذي مات على الكفر، كما ذكر في هذه الآية.
إذاً: الآية: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] يقصد بها: الذي يرتد عن الدين ويموت وهو كافر.
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] الراجح: أن هذا مطلق ويقيد بالآية التي فيها ذكر الوفاة.
وجاء في حديث عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير).
فهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه يذكر أنه كان في الجاهلية مع شركه ومع كفره يعمل أعمالاً من الخير منها: أنه تصدق، وأعتق رقاباً، وأنه وصل رحمه فهل له أجر بعدما أسلم على هذا الذي عمله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير).
إذاً: هذا العمل السالف الذي كان من الخير لك أجره عند الله سبحانه وتعالى.
فإذا كان هذا كافراً أصلياً ونفعه ذلك بعد ما أسلم؛ فإن ذلك ينفع من كان مسلماً ثم وقع بعد ذلك في الردة والعياذ بالله ثم تاب ورجع إلى الإسلام.
وهذا الذي ننقله فيمن حج حجةً صحيحة وهو مسلم، أما من حج ثم ارتد في حجه فحجه باطل بذلك، وقد ذكرنا أن الذي يبطل الحج ويلغيه هي الردة، فإذا تاب بعد ذلك وعاد إلى الإسلام لزمته الحجة التي ارتد فيها وأبطلها بردته.
إذاً: هناك فرق، فإذا ارتد وكفر ورجع عن الإسلام في أثنا حجه، ثم بعد ذلك تاب بعد ما انتهت هذه الأعمال وانتهت المناسك فلا ينفعه الحج، ولا يقال له: امض في هذه الحجة، بخلاف من أفسدها، فالذي أفسدها بالجماع وهو مسلم فإنَّه يصح منه أن يأتي بالعمل الذي فيه طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأنه عنده أصل الإيمان.
إذاً: فرق بين من أفسد الحجة بجماع، فهذا نقول له: أكمل حجتك؛ لأن هذا مسلم يكمل الحجة التي أفسدها، وبين من ارتد في أثناء حجته فأبطلها وانتهى حجه بذلك، فعلى هذا يحج إذا أسلم بعد ذلك، لكن من حج حجةً صحيحة وبعد ما حج وانتهى حجه رجع إلى بلده ووقع في شيء يجعله مرتداً والعياذ بالله، ثم تاب ورجع إلى الإسلام، فالراجح: أنه لا يلزمه أن يحج مرةً ثانية، فقد وقعت حجته صحيحة على ما ذكر.