الحادي عشر: بعدما ذبحت وقطعت فوزعها على من يستحقها، وقسمة الهدي والأضاحي قال الله عز وجل فيها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].
فأمر الله عز وجل فيها: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، و {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36].
إذاً: فالسنة أن تأكل منها وتطعم القانع والمعتر، كما قال الله سبحانه، وأكثر أهل العلم على أن الأكل منها مستحب، فلو لم تأكل منها فلا شيء عليك.
وجاء في صحيح مسلم عن ثوبان قال: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته ثم قال: يا ثوبان! أصلح لحم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة)، فهذا فيه أنه ذبح أضحية وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا وادخروا فأكلنا وتزودنا).
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من أجل أن جماعة من الأعراب نزلوا المدينة دافة، وكانوا في غاية المسكنة والضعف وكانوا محتاجين إلى الطعام، فلو أن كل واحد من أهل المدينة ذبح أضحيته وأكل وادخر فلن يأكل الأعراب شيئاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة نهاهم أن يتزودوا منها فوق ثلاث، فحدد ثلاثة أيام للأكل من الأضحية، وما زاد عن ذلك يعطي لهؤلاء الأعراب، ثم نسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا منها وتزودوا).
ومن لم يأكل من هديه وأضحيته فلا شيء عليه؛ فالأمر في الآية ليس للوجوب، وثبت في سنن أبي داود عن عبد الله بن قرط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القر)، إذاً: يوم النحر أعظم الأيام؛ لأن فيه أغلب المناسك، من صلاة الفجر في المزدلفة، والوقوف عند المشعر الحرام، ورمي الجمرة، والحلق وهو نسك، والذبح والنحر، والطواف بالبيت، وهي كلها مناسك تكون في يوم العيد، فهو أعظم الأيام عند الله عز وجل، ثم يليه يوم القر الذي هو أول أيام التشريق وثاني أيام العيد.
قال: (وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست)، أي: في هذا اليوم يوم النحر قرب للنبي صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست بدن (فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ)، وهذه كرامة من كراماته صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، فالبدن أو الجمال كل منها يقرب للنبي رافع رقبته من أجل أن يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم بذبحه أو بنحره، (فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم كلمة خفية لم أفهمهما)، يقول الراوي ذلك، (فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع)، فكأنه نحر هذه الجمال وتركها ولم يأخذ منها شيئاً، وهذا دليل على أنه لا يجب أن يأكل من لحم الأضحية، فقد نحرها النبي صلى الله عليه وسلم وتركها للناس، وقال بصوت خفيف أو منخفض: (من شاء اقتطع)، أي: من يريد أن يأخذ فليأخذ، ولماذا ما قال بصوت عال؟ لعله خشي أن يحصل هجوم عليها، فلعله خفض صوته ليأخذ كل واحد منهم شيئاً بسيطاً فيكفي الجميع.
إذاً: فلا يلزم الأكل منها سواء من الأضحية أو من الهدي، بل يجوز التصدق بالجميع وألا يأكل منها شيئاً، والأفضل: أن يتصدق بأكثرها، فإن تصدق بأدنى جزء منها كفاه؛ لأن اسم الإطعام والتصدق يقع عليه، فإن أراد الأكل من الأضحية أو من المنذورة أو من المتطوع بها فنقول: لك أن تأكل منها الثلث، وأن تهدي الثلث، وأن تعطي الفقراء البعض منها الذي يطلق عليه أنه صدقة، فإن لم تجد ما تعطي الفقراء فتأتي بلحم مثل القدر الذي أكلته وتوزعه على الفقراء.
فأدنى الكمال: أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين، وأكمله أن يأكل شيئاً ويتصدق بالباقي، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر مائة بدنة في حجة الوداع أخذ من كل جمل قطعة لحم، وكان المجموع الذي أخذه شيئاً يسيراً أمام ما ذبح، إذ تصدق بالجميع وأخذ من كل جمل قطعة بحيث وضعها في قدر، وهي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه، فأكلوه، والباقي كله للناس، فهذا هو الكمال.
أما أدنى الكمال: فهو أن يأخذ شيئاً ويتصدق بشيء، فيأكل الثلث ويتصدق بالثلثين، أو يأكل الثلث ويتصدق بالثلث على المساكين ويهدي الثلث إلى الأغنياء، ولا يوجد حديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التقسيم، أي: ثلث للمضحي وثلث يتصدق به وثلث يهديه، ولكن أخذ من معنى هذه الآية، قال الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا)، أي: يأكل جزءاً منها، وقوله: (وأطعموا القانع) وهو المسكين السائل، وهذا جزء ثانٍ، وقوله: (وَالْمُعْتَرَّ)، أي: الذي لم يسأل فتهدي إليه، فجعلها أثلاثاً، وإن كان لا يشترط قسمة ثلاثية بالعدل، فقد تقل نصيبك أنت وتزيد في الباقي.