وخلاصة القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعن، وهذا الحديث احتج به الجمهور على جواز الرمي قبل طلوع الشمس، وسواء خصصوا الذي يعجل بالليل من الضعفاء أو لم يخصصوا، فالجمهور عمموا الحكم في النساء الضعيفات وغيرهن؛ لأن العذر موجود سواء في النساء أو غيرهن.
فالرمي في الليل سيخفف من العدد ويكون هناك تيسير على الناس في ذلك.
وقال الأحناف: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فأخذوا بالأحوط، ولكن لا إنكار على من رمى قبل ذلك، فـ أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها رمت الجمرة بالليل وصلت الصبح بعدها، فدل على أنه يجوز أن ترمي بعد طلوع الفجر وتصلي الصبح بعد الرمي.
وقد رأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشافعي.
أما الأحناف فمنعوا وقالوا: إنه لا يجوز رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها.
فعند الأحناف أنه لو رمى هذه الجمرة قبل الفجر وجب عليه أن يعيدها مرة ثانية، فإذا رماها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس صح رميه وخالف السنة.
والجمهور على أنه لو رماها بالليل فالرمي صحيح، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء من النساء، فمن كان هذا حاله أو وجد أصحاب أعذار فرموا قبل ذلك -أي: من الليل عند وصولهم إلى منى -فالرمي صحيح.
واحتج الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام من مزدلفة بليل، وعبد الله بن عمر كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، بل كان من أشد الصحابة مواظبة وحرصاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أرسل غلمان بني عبد المطلب قال: (أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر)، فحديث ابن عباس أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس، وشعبة كان سيء الحفظ، وحديث: (لا ترموا الجمرة قبل أن تطلع الشمس) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من رمي الجمرة قبل طلوع الشمس، وهذا الاحتياط فيها أنه لا ترمى الجمرة إلا بعد طلوع الشمس، لكن في قصة أسماء أنها رمت مع الصبح، وفي قصة عبد الله بن عمر ذكر أنه أرخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليه لا يوجد تناقض بين الحديثين، فكأنه قال: لا ترموا إلا بعد طلوع الشمس، وهذا على وجه الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم وعلى وجه الندب، فإذا فعلوا قبل ذلك جاز لقصة أسماء وقصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وخلاصة القول: أن الذي يصل إلى منى عند طلوع الصبح له أن يرمي ثم يصلي الصبح، وله أن ينتظر -وهذا الأفضل- إلى أن يصلي الصبح ثم يرمي الجمرات بعد طلوع الشمس.
فإذا وصل الضعفاء من النساء وغيرهن إلى منى قبل طلوع الفجر وبعد نصف الليل فالمستحب أن ينتظروا حتى تطلع الشمس ثم يرموا جمرة العقبة خروجاً من الخلاف الذي بين الأحناف وبين الجمهور في ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).
فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإرشاد، بمعنى: يكره لكم ذلك، فلا تفعلوا إلا بعد طلوع الشمس، والسبب في قولنا يكره ذلك، أو وجه أنه يندب أن يرمى بعد طلوع الشمس ما جاء في قصة أسماء، وقصة عبد الله بن عمر المتقدمتين.
ولا بأس أن يرموا جمرة العقبة بعد صلاة الصبح وقبل زحمة الناس؛ لأن الزحام يكون شديداً بعد ذلك، فيحطم الناس بعضهم بعضاً عند الرمي، فمن التيسير في الشريعة أنه إذا وصل إلى جمرة العقبة بعد صلاة الصبح بسبب الزحام وخاصة في زماننا هذا فله أن يرميها.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس)، فالسيدة عائشة تتمنى أن لو كانت فعلت كما فعلت السيدة سودة رضي الله عنها، ولم تقل: بعد طلوع الشمس ولا غيره، بل قالت: أصلي الصبح فأرمي قبل أن يأتي الناس، فهنا ترتيب وتعقيب، فالناس سيخرجون من المزدلفة متوجهين إلى منى، فمنهم من صلى الصبح وانطلق، ومنهم من مشى قبل ذلك وصلى في الطريق أو صلى هنالك، فقيل لـ عائشة: (فكانت سودة استأذنته؟ قالت: نعم، إنها كانت امرأة ثقيلة ثبطة) أي: إن جسمها ثقيل وكانت بطيئة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها صلوات الله وسلامه عليه، فالسيدة عائشة كأنها علمت من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز لمن يصل إلى هنالك وقت الصبح أن يصلي الصبح ويرمي الجمرة.
وفي رواية أخرى للنسائي (وددت أني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فصليت الفجر بمنى قبل أن يأتي الناس، وكانت سودة امرأة ثقيلة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها، فصلت بمنى ورمت قبل أن يأتي الناس).
وفي الصحيحين عن سالم قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعاف أهله فيقفون عند المشعر الحرام بمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منىً لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرات).
فالذي يقدم قبل صلاة الفجر عليه أن يرمي الجمرة قبل أن يصلي، والذي يقدم بعد ذلك عليه أن يرمي الجمرة ويصلي، (وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهذا حكم الضعفاء، فأما غيرهم فالسنة في حقهم أن يمكثوا بمزدلفة حتى يصلوا الصبح هنالك ثم يقفون عند المشعر الحرام ويدعون الله، وقبل الإسفار ينطلقون إلى منى.
فإذا طلع الفجر بادر الإمام والناس بصلاة الصبح في أول وقتها والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاته)، وليس المقصود أنه غير وقت الصلاة وصلاها في وقت آخر، ولكن المقصود هنا أنه ليس من عادته أن يصلي الفجر بعد الأذان وركعتي السنة مباشرة، فهذا لم يحصل من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الوقت، ولا تظن أن قوله: (قبل ميقاتها) أي: أنه صلى الفجر بليل، فهذا ينافي معنى الفجر، فالفجر بمعني: انفجر شعاع الشمس فخرج فوق الأفق فكان وقت الفجر، فهو صلى الفجر على أول وقتها عليه الصلاة والسلام؛ ليتسع الوقت لوظائف هذا اليوم من المناسك فإنها كثيرة، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه، فلو أنه أطال صلاة الفجر وصلاها كعادته وانتظر حتى يجتمع الناس من كل مكان إلى أن ينظر الإنسان إلى جليسه، يضاق الوقت على المناسك المشروعة في ذلك اليوم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.