فيكثر من الذكر والدعاء قائماً وقاعداً، ويرفع يديه بالدعاء، ولا يجاوز بهما رأسه، فلو رفع يديه فوق جداً ربما يتعب من ذلك، ولكن يرفع اليدين بالدعاء وهو مستريح، ويكثر من الدعاء ما استطاع.
ولا يتكلف السجع في الدعاء، فهو يوم تظهر فيه المسكنة والتواضع والخشوع، وليس وقتاً تظهر فيه البلاغة بين يدي الله عز وجل ولا الفصاحة، فتدعو ربك سبحانه وتعالى على أنك فقير إليه، ومحتاج إليه، والفقير عندما يسأل ويطلب لا يسجع في الكلام، ولا يترنم ولا يتغنى بالدعاء، ولكن الإنسان يدعو ربه كهيئة المسكين الفقير المتخشع المتذلل المحتاج إلى ربه سبحانه؛ فيكون أقرب إلى الإجابة.
ولا بأس بالدعاء المسجوع إذا كان محفوظاً، والإنسان لا بد أن يحفظ دعاء من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وأن تتوب علي)، فلك أن تدعو بما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى وإن كان الدعاء فيه سجع.
ولو أن الإنسان اصطحب معه مذكرة أو كتاباً فيه أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل، فتدعو بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اليوم تدعو لنفسك ولأهلك ولإخوانك، ولمن علمك، ولمن أهدى أو أسدى إليك جميلاً.
ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت، واعلم أن الموقف مليء بالناس، فأنت عندما ترفع صوتك وتصرخ، والثاني يرفع صوته ويصرخ، والثالث لا ينتبه لما يقول من الدعاء، فهذا من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون من الحجاج، فكل يهتم بنفسه وغيره لا دخل له فيه، فلعل غيرك يتأذى بصوتك المرتفع، وفي هذا اليوم تجد كثيراً من الناس معهم مكبرات صوت، كل خيمة معهم مكبر يمسكه أحدهم ويدعو ويصرخ والناس يصرخون وراءه، والذين في الخيمة الثانية كذلك، والثالثة كذلك، فتكون الأدعية مختلطة، والذي يريد أن يدعو بشيء لا يعرف ما يقول؛ لأن الأصوات مزعجة ومختلطة.
فلذلك ينبغي للإنسان الذي يدعو حتى وإن كان في جماعة ويريد أن يعلمهم أو يدعو وهم يؤمنون فليكن على قدر ما يسمعهم فقط بدون مكبرات صوت، حتى لا تتداخل أصواتهم، ويزعج الناس بعضهم بعضاً.
فقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)، أي: ارفقوا بأنفسكم، (اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنه معكم إنه سميع قريب)، تبارك اسمه وتعالى جده سبحانه وتعالى.
ويستحب أن يكثر من التضرع والخشوع والتذلل والخضوع، وإظهار الضعف والافتقار، ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة، بل يكون قوي الرجاء للإجابة؛ لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فادع كثيراً وألح في الدعاء على ربك تبارك وتعالى، ويقيناً سوف يستجيب الله سبحانه لك: إما بأن يعطيك هذا الذي سألته، أو أنه يكف عنك من الشر بقدر ما سألت من الخير، أو أنه يدخر ذلك لك ليوم القيامة حسنات كأمثال الجبال، فكله خير من الله سبحانه، فادع وأنت واثق في إجابة الكريم سبحانه.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم).
(ما على الأرض) أي: كل إنسان على وجه الأرض يدعو ربه سبحانه بهذا القيد، (ما على الأرض مسلم يدعو الله سبحانه بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها)، بشرط: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) لم يدع على أبيه، ولا على أمه، ولا على أخيه، ولا يدعو بإثم، أي: يطلب من الله عز وجل ما هو محرم ولا يجوز له أن يطلبه، فلا يسأل شيئاً فيه إثم، ولا يدعو بقطيعة رحم، فهذا الإنسان الذي أتى بالدعاء بشرطه يستجاب له.
ففرح الصحابي بذلك وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إذاً نكثر)، طالما أن الأمر هكذا، والله يعطي لكل إنسان فنحن سندعو الله كثيراً، قال: (إذاً نكثر، قال: الله أكثر)، فمهما أكثرت أنت من الدعاء فالله يعطيك على ما تسأل الأكثر والأكثر بفضله وكرمه سبحانه.
وفي رواية أخرى قال: (وإما أن يدخر له في الآخرة)، فالإجابة على ثلاثة أنواع، قال: (إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة).
والدعاء له آداب، فتفتتح دعاءك بتحميد الله وتمجيده تبارك وتعالى وتسبيحه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكن لك عبرة في فاتحة الكتاب، فأنت تقرأ الفاتحة في كل صلاة من أجل أن تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فلا تقرأ مباشرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وإنما تبدأ الفاتحة بالبسملة في سرك، وتحمد الله سبحانه، وتمجده وتثني عليه، وفي النهاية تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم تطلب من الله سبحانه، فليكن ذلك لك موعظة فيما إذا دعوت الله سبحانه، فلتبدأ بذكره وبحمده وتبجيله وتمجيده والثناء عليه سبحانه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سل ربك ما تريد.
فيفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله تعالى، والتسبيح، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختم دعاءه بمثل ذلك، وليكن متطهراً متباعداً عن الحرام والشبهة في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه وغير ذلك مما معه، فإن هذه آداب الدعاء في جميع الدعوات.
وليحذر الإنسان من الحرام، فلا تأتي في يوم عرفة فتجد شيئاً مرمياً في الأرض فتأخذه، ولعل الإنسان يحدثه الشيطان: خذها ولن تجد لها أحداً فتكون لك بعد ذلك، فيأخذ شيئاً ليس من حقه أن يأخذه، فهنا احذر أن تأخذ من الناس أشياء ليست لك، فيجد إنسان مع آخر شراباً فيخطفه ويشربه في يوم عرفة، يمزح معه بذلك، والآخر غير راضٍ بذلك، ومن ثم سيرفع يده ويقول: يا رب! يا رب! ويجد إنساناً يأكل فيأخذ منه طعامه فيأكله ويتركه بغير طعام، ويدخل المسجد فيطأ الناس ويؤذيهم، ويضرب هذا، ويلكم هذا، ثم يجلس يدعو بعد ذلك!! وتجد مجموعة آخرين مع بعض مولعين الشيشة والسجائر، ومعهم راديو يسمعون الموسيقى والأغاني! وقبل غروب الشمس يقول لك: تعال يا شيخ ادع لنا قليلاً من أجل أن ندعو معك، وهو يدعو وهم يؤمنون! فهذا يوم عظيم، يوم العبودية لله والخشوع بين يديه سبحانه، فاحذر من الحرام في هذا اليوم وفي غيره.
وليكثر من التسبيح والتهليل والتكبير ونحوها من الأذكار، وأفضله ما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
فهذا من الأذكار التي تحرص عليها وتقولها كثيراً، وإذا كان خير ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وخير ما قاله الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فليكثر منها الحاج، وخاصة في هذا اليوم.
وليكثر من التلبية رافعاً بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها، فاليوم طويل، والوقت واسع، فليقل شيئاً من الدعاء والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتلبية والتكبير والاستغفار وغير ذلك.
ويدعو منفرداً وفي جماعة، وإذا كان يدعو وحده فهذا حسن، وإذا كنت في الدعاء سواء في يوم عرفة، أو وأنت تطوف بالبيت، أو وأنت على الصفا والمروة فلتخفض صوتك، فقد أسمعت من ناجيت، ودعوت ربك سبحانه وأسمعته.
فيدعو العبد لنفسه ولوالديه ولمشايخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبابه، وسائر من أحسن إليه، وسائر المسلمين، والإنسان الذي يدعو للمؤمنين الله عز وجل يثيبه على ذلك، وقد جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة) فتدعو لنفسك وتقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين، وسوف تعطى على كل واحد منهم حسنة.
وكذلك دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يؤمن عليه الملك، ويقول: آمين، ولك بالمثل، فأنت إذا دعوت لأخيك دعا لك الملك فكان أعظم، فلذلك المؤمن يدعو لنفسه ولا ينسى إخوانه وأهله، فيدعو لإخوانه وأحبابه.
وينبغي أن يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، فيتوب إلى الله عز وجل في هذا اليوم وغيره، ويكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات، وتستقال العثرات، وترتجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم، فيجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين، وأوليائه المخلصين، والخواص من المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، يوم عرفة أعظم الأيام التي يرتجى فيها العتق من النار، فهو أعظم يوم يعتق الله عز وجل فيه عباده من النار.
وليكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة، فهي أيام عظيمة، ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه -يعني: الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء).
إذاً: يوم عرفة أعظم أيام العام، فالإنسان المؤمن يعرف فضل هذا اليوم وقدره، سواء كان في عرفة -وهذا أفضل ما يكون- أو في غيرها، فله أن