الاضطباع: مشتق من الضبع، وضبع الإنسان هو عضده، وقيل: هو النصف الأعلى من العضد، إذاً: النصف الأعلى من العضد يسمى ضبع الإنسان، والاضطباع أن يكشف هذا المكان، فقولنا: اضطبع بمعنى: كشف المنكب الأيمن.
ويقال للاضطباع أيضاً: التوشح، والتأبط؛ لأنه يجعل رداءه تحت إبطه، فيسمى اضطباعاً؛ لأنه كشف ضبع الإنسان، ويسمى تأبطاً؛ لأنه يجعل رداءه تحت إبطه.
فاضطباع المحرم: هو أن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره، ويبدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر.
والاضطباع مستحب في الطواف، ولا يستحب في غير طواف القدوم في الحج وطواف العمرة، إذاً المعتمر يسن له ذلك، وهذا من السنن وليس من الفروض ولا الواجبات، فإذا نسي فلا شيء عليه، وإذا تعمد ألا يفعله فلا شيء عليه كذلك، ولكن السنة أن يفعل ذلك، فهو مستحب.
وقد جاءت في ذلك أحاديث منها: ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة)، وهذا كان سنة ثمان عندما اعتمر صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، حيث توجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين ثم رجع فاعتمر من الجعرانة، قال: (اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى).
أيضاً روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شراً، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا في الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين)، وكأن هذا كان في عمرة القضاء، وقد كانت سنة سبع، وكان المشركون يراقبون يريدون أن يشمتوا بالمسلمين الذين أتوا يعتمرون، فقد صدوهم في العام الماضي سنة ست في الحديبية، والآن في سنة سبع في عمرة القضاء يريدون أن يتفرجوا عليهم، فقالوا: هؤلاء قوم وهنتهم حمى يثرب، فقد كانت المدينة تسمى بيثرب، وكان كل من قدم إليها يصاب بالحمى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه أن ينقل هذه الحمى من المدينة إلى مهيعة، فاستجاب له ربه سبحانه.
فلما قدموا في عمرة القضاء فلا شك أنهم قد تعبوا، فالطريق طويل جداً، وأيام وليالٍ قضوها في الطريق، ولذلك أراد المشركون أن يشتموا بالمسلمين القادمين، فقالوا: إنهم قد وهنتهم حمى يثرب، وسترون كيف سيسقطون حول البيت، ولن يستطيعوا الطواف، فأخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما قالوه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم رأى الكفار جالسين فوق الجبل يشاهدون المسلمين، والمكان المخفي عنهم من الكعبة هو الذي بين الركنين، فأمر المسلمين أن يمشوا بين الركنين ثم يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني، والرمل هو: المشي السريع كهيئة الذي يجري، ففعل الصحابة ذلك، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم، هم أجلد منا، ولقد قدموا من هذا السفر كله، ويطوفون حول البيت بهذه الكيفية، فهم أجلد وأقوى منا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم)، فلو أمرهم أن يرملوا الأشواط السبعة كلها لوقعوا من التعب ولشمت بهم المشركون، ولكن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط فقط.
وهذا الأمر كان لعلة، ثم فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لغير علة لما فتحت مكة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في حجة الوداع فرمل واضطبع صلوات الله وسلامه عليه، فدل على أنه كان السبب هذه العلة، واستمر الأمر على أنه سنة بعد ذلك، سواء وجدت العلة أم لم توجد.
وجاء عن ابن عباس أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع، فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف)، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا عن قريش مشوا؛ لأن القرشيين لا يرونهم وهم عند الركن اليماني، ثم إذا طلعوا عليهم رملوا، تقول قريش: كأنهم الغزلان، قال ابن عباس: فكانت سنة، أي: صارت هذه سنة بعد ذلك: الرمل والاضطباع.
واضطباعه صلى الله عليه وسلم كأنه إظهار للقوة، فالإنسان يكشف يده اليمنى عندما يتعاطى صنعة معينة، أو يكشف ذراعي لتعاطي الشيء إظهاراً للقوة على الصنع، فكأنه كذلك يظهر يده اليمنى إظهاراً للقوة في ذلك، وكذلك الرمل هو لإظهار القوة على المشي وعلى العبادة، وأيضاً حتى لا يشمت بهم المشركون، أو يظنوا أنهم يقدرون عليهم.
وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم ببرد أخضر)، كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتدياً رداءه برداً لونه أخضر عليه الصلاة والسلام.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (فيم الرملان اليوم؟ والكشف عن المناكب؟ وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله -أطأ الإسلام بمعنى: وطأ له، ومهد له، وأتم الله سبحانه وتعالى ما أراد من هذا الدين العظيم- ثم قال: ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذاً السؤال ليس استفهاماً يستفهم من الناس، وليس إنكاراً لهذا الذي يصنعونه الآن، وإنما الاستفهام حتى يشوق السامع إلى الجواب الصحيح: لماذا نحن نرمل حول البيت؟ ولماذا نحن نبدي المناكب؟ ثم قال لهم: سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي فعل فلا نتركها.
ويسن الاضطباع للذكر صغيراً وكبيراً، في طواف العمرة، وفي طواف القدوم في الحج، سواء سعى بعده أم لا، ويسن معه الرمل، لكن يفترق الرمل والاضطباع في أن الرمل يكون في الثلاثة الأشواط الأولى فقط، وبعد ذلك تمشي كل المسافة من الحجر إلى الحجر مشياً عادياً خلال الأربعة الأشواط الباقية كلها، فالثلاثة الأولى ترمل فيها ما بين الركن الذي فيه الحجر إلى الركن اليماني الذي بعد ذلك، وبعدها بين الركنين تكون ماشياً.
بينما الاضطباع يكون في جميع الطواف، فإنك لا تستر منكبك الأيمن إلا بعدما تنهي الطواف كله ثم تذهب لتصلي خلف مقام إبراهيم.
إذاً: الرمل يسن في الثلاثة الأول ثم يمشي في الأربعة الأواخر، ولا يسن الاضطباع في السعي، ولا في ركعتي الطواف، فعندما تطوف بالبيت تضطبع، وتكشف المنكب الأيمن، لكن عندما تصلي لا تفعل ذلك، بل تستر المنكب، وتأخذ الزينة في الصلاة، فتصلي وأنت متزين للصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقيه شيء)، إذاً الثوب لا بد أن يكون على العاتق، فلا يصلي وليس على العاتقين شيء، وهذا الحديث متفق عليه، وعند النسائي بلفظ: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
فالاضطباع كما قلنا: يكون في كل طواف قدوم، في السبعة الأشواط، فلو فرضنا أنك نسيت وبعدما طفت أربعة أشواط أو خمسة تذكرت فإنك تأتي به فيما بقي.
لكن الرمل يكون في الثلاثة الأول، فلو أنه نسي الرمل في الثلاثة الأول فلا يسن ولا يشرع أن يتداركه بعد ذلك؛ لأن وقته وهيئته في الثلاثة الأشواط الأول، أما الأربعة الباقية فالسنة فيها أن تكون ماشياً، فلا تفعل فيها ما هو سنة في الأشواط التي قبلها.