قال جابر رضي الله عنه: (فأصبح صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنته، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة) وفي بعض الروايات: (وقلد البدن).
يعني: أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر ذي القعدة قبل أن ينتهي بخمسة أيام أو خمس ليال.
وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه بدناً من المدينة، ووصى علياً أن يشتري له من اليمن بدناً، فكان مجموع ما ساقه وما قدم به علي رضي الله عنه مائة، كلها أهداها النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت.
وقوله: (قلد بدنته) التقليد هو: وضع قلادة من ليف في عنقها، فالحبل الذي يوضع في عنق الدابة يقال له: قلادة، وأصل القلادة: ما تضعه المرأة من شيء في رقبتها.
وجاء في رواية: (أنه علق فيها نعليه)، يعني: أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي قلدها وضع في عنقها حبلاً من ليف، وفي هذا الحبل علق نعليه، وكأنه إشارة إلى الحث على التوجه إلى بيت الله سبحانه وتعالى والمشي والطاعة في ذلك.
قال: (وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة)، يعني: أنه بقي في الرحلة تسعة أيام؛ فخرج من المدينة وبقي خمسة أيام انتهى شهر ذي القعدة، ووصل مكة صلى الله عليه وسلم في الرابع من ذي الحجة، فأخذ منه المسير تسعة أيام.
هنا يقول جابر: (إن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟).
يعني: ماذا أعمل وأنا نفساء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي).
يعني: أن السنة في المرأة النفساء التي تلد، ومثلها الحائض كذلك أنها تغتسل، فإذا كانت هذه في غسلها لن يفيدها إلا التنظف فقط، فإن من يفيده الغسل العبادة من باب أولى، كالذي عليه جنابة، فإن الغسل يرفع هذه الجنابة، وهذا أولى، وكذلك المرأة التي انتهى حيضها فيلزمها التطهر، فهذه أولى أن تغتسل لذلك، فالغسل هنا غسل تنظف، تتنظف المرأة ويتنظف الرجل ويستعد لأعمال المناسك.
وقوله: (استثفري) بمعنى: تلجمي، يعني: ضعي على مكان نزول الدم شيئاً من الثياب واربطيه جيداً؛ حتى لا ينزل منك الدم.
قال: (وأحرمي، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء) وهي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولها أسماء، وهذا من أسمائها.
في رواية النسائي لهذا الحديث: (فلما أتى ذا الحليفة صلى وهو صائم حتى أتى البيداء).
يعني: ما زال لم يلب عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جاء وقت الصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم الصلاة ولم يكن قد أهل إلى أن أتى البيداء فبدأ بالتلبية بعدما ركب ناقته.
وهنا ذكر القصواء، وفي رواية ذكر: (الجدعاء)، في رواية ذكر: (العضباء)، وفي رواية: (على ناقة خرماء)، والظاهر أنها هي هي، فهي ناقة واحدة، وكأن هذه أوصاف أو أسماء لهذه الناقة التي ركبها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش).
يعني: استوت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم به وكانت الطريق والصحراء أمامه مليئة بالناس من بين اليدين ومن اليمين والشمال.
قال: (نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به).
يعني: أن الجميع كانوا ينظرون إلى فعله صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن ينزل عليه وهو يعمل صلوات الله وسلامه عليه وهم يقتدون.
قال: (فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، هذا إهلاله صلى الله عليه وسلم، وأهل بمعنى: رفع الصوت، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم بهذه التلبية، وأهل الناس بهذه التلبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أهل بذلك، والناس اقتدوا به صلى الله عليه وسلم، وزادوا عليه أشياء لم ينكرها عليه الصلاة والسلام؛ فجاء في رواية: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)، فزاد هذه الكلمة: (والرغباء) يعني: السؤال، والطلب، أي: نطلب منك ونسألك ونرغب فيما عندك، وقوله: (والعمل) يعني: نخلص العمل ونوجهه إليك.
وجاء أيضاً فيه رواية أخرى عن عبد الله بن عمر: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل)، ففيها زيادة كانوا يقولونها، ومنهم عمر ومنهم عبد الله بن عمر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فالتزم تلبيته.
وفي رواية لـ جابر عند أبي داود قال: (وذكر التلبية والناس يزيدون: ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً)، (والمعارج) جمع معراج وهو: الذي تعرج فيه الملائكة إلى السماء، فقوله: (ذا المعارج) يعني: يا صاحب السماوات! يا صاحب المعارج التي تعرج الملائكة فيها إلى السماء! فالله سبحانه يملك كل شيء، فكانوا يقولون ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر عليهم هذا الذي يقولونه.
وجاء عن عمر أيضاً أنه كان يزيد: (لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (لبيك وسعديك، والخير بيديك والرغباء إليك والعمل).
وعن أنس رضي الله عنه: (لبيك حقاً؛ تعبداً ورقاً، لبيك حقاً؛ تعبداً ورقاً).
فهذه بعض الزيادات التي كانوا يقولونها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على تلبيته التي قال.
قال جابر: (فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته).
قال جابر رضي الله عنه: (لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة).
فـ جابراً ذكر أن كل الذي نلبي به هو الحج، ولكن ذكرنا قبل ذلك عن عائشة أنها ذكرت: أن الصحابة منهم من لبى بالحج ومنهم من لبى بالعمرة ومنهم من جمع بين الاثنين، فهنا الذي علم حجة على من لم يعلم، والعدد كان ضخماً جداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فـ جابر سمع من حوله وهم لا يعرفون إلا الحج فقط، وعائشة سمعت غيره ممن لبوا بعمرة، وممن لبوا بحج وعمرة، وممن لبوا بحج فقط.
إذاً: هنا كونه يقول: (لسنا نعرف العمرة) يعني: في هذه الحجة، هذا في ظن جابر رضي الله عنه.