روى أبو داود وأحمد عن عبيد بن جبر قال: (كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان)، يذكر أنه كان مع أبي بصرة الغفاري وخرج من الفسطاط في سفينة.
(فرفع) يعني: شراع السفينة.
(ثم قرب غداه) أي: قدموا له الأكل ليأكل.
(فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة) يعني: ركب السفينة ومضت بهم ولكنهم لم يزالوا يروا بيوتاً من ورائهم، فأصبحوا مسافرين فأفطر أبو بصرة رضي الله عنه.
قال: (فقلت: ألست ترى البيوت؟!) أي: ألا ترى البيوت أمامك؟ قال أبو بصرة: (أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأكل.
وفي رواية أخرى: (ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة)، من الفسطاط في القاهرة حتى يصل إلى الإسكندرية، فالمسافة مسافة قصر ولكنه أفطر بعد أن ركب السفينة مباشرة، بمجرد أن ركب السفينة بدأ بالإفطار بعدما تحركت السفينة.
وروى الترمذي عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكله، فقلت له: سنة، قال: سنة؟ ثم ركب.
وقصة أنس بن مالك رضي الله عنه توضح أن محمد بن كعب ذهب إليه وقد جهز نفسه للسفر، وقد كان في بيته أو قابله خارج المدينة، فكلا الأمرين محتمل، يُحتمل أنه كان في بيته وجهز له ركوبته وقبل أن يركب أفطر ثم انطلق، وهو متأكد أنه مسافر فانطلق، فيستدل به البعض أنه يجوز له أن يفطر في بيته ثم يخرج.
والراجح: ليس له أن يفطر حتى وإن فعل أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه ذلك؛ لأن العلماء قالوا: فعل أنس يحتمل التأويل، فيحتمل أن محمد بن كعب قابله وهو في بيته، ويحتمل أنه قابله وهو خارج المدينة، ولذلك يجوز عند جماهير العلماء أنه إذا ركب وخرج من المدينة وخلفها وراءه حتى لو أنه يرى بيوت المدينة وهو خارجها أن يفطر؛ لأنه عزم على السفر وتأكد أنه في سفر، فعلى ذلك فعل أنس بن مالك رضي الله عنه، فيحتمل أنه خرج من المدينة وقابله محمد بن كعب هنالك، ويحتمل أنه كان في المدينة أو كان في بيته، فالحديث محتمل، يقول: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته أي: جهزتها، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكله، فقلت له: سنة؟! قال: سنة، ثم ركب.
وأيضاً الاحتمال وارد في قوله: قلت له: سنة؟! كأنه يقول: سنة إذا كان يوم من رمضان وأنت شاهد الشهر وأردت الخروج فخرجت فلك أن تفطر، هل هذه سنة؟! فقال: سنة، ويحتمل: سنة أنك تأكل قبل أن تخرج؟! فيقول: إنها سنة، فلما كانت دلالة الحال يتطرقها الاحتمال فيبعد بها الاستدلال.
وقد قلنا: إن كثيراً من العلماء يستدلون بالآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، أنه إذا كنت مقيماً في البلد وأصبحت صائماً ثم خرجت مسافراً ليس لك أن تفطر، فكأن أنساً هنا يقول: لا، سنة أن أفطر، وجاء بهذه السنة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفره لفتح مكة عليه الصلاة والسلام، فقد أصبح صائماً وأفطر بعد العصر عليه الصلاة والسلام.
إذاً: السنة إذا سافرت وأنت صائم لك أن تفطر وهذا ما يحتمله هذا الحديث.
يقول الترمذي: ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحاق بن راهويه.
ولكن جماهير العلماء لم يقولوا بذلك، وإنما قالوا: طالما أن اسمه مسافر فله أن يقصر وله أن يفطر، وإذا لم يسمَّ مسافراً ليس له أن يقصر أو أن يفطر، أما التفرقة بين القصر والإفطار أن له أن يقصر إذا خرج وليس له أن يقصر وهو موجود، حتى وإن كان ناوياً للسفر، وله أن يفطر وهو في بيته وليس له أن يقصر الصلاة، فهذه تفرقة بين متشابهين، لكن الأحوط في ذلك أنه ليس له أن يقصر ولا أن يفطر إلا إذا خرج من البلد؛ لأنه إذا خرج من البلد الآن صار مسافراً، أما وهو في المدينة فلا يطلق عليه مسافر، فلو تخيلنا إنساناً في بيته وهو في نهار رمضان فأفطر فالعذر للمسافر وأنت لست مسافراً ما زلت في البلد، فقد تخرج لتركب القطار، وبعد أن تصل إلى محطة القطار تجد القطار قد فاتك، فإذاً أنت ما زلت مقيماً وأفطرت فكيف تفطر وأنت لم تتيقن من السفر؟! بخلاف من ركب القطار وتحرك به القطار فيكون الآن قد أيقن أنه مسافر فعلى ذلك له أن يفطر بعدما تحرك وخرج، وليس وهو في البلد فيحتمل أن يخرج ويحتمل ألا يخرج.
فالجميع اتفقوا على أن المسافر إذا كان في البلد ليس له أن يقصر الصلاة، وهذه أسئلة يسألها البعض ويقول: أنا مسافر، والآن وقت صلاة الظهر وأنا على محطة القطار، وسنركب القطار وسنصل هناك بعد المغرب فهل لي أن أصلي الظهر والعصر جمع تقديم وأنا في هذا المكان؟! فليس له ذلك؛ لأنه مقيم وليس مسافراً، لكن لو خرج في الطريق وخرج به القطار من البلد، وصار يطلق عليه مسافراً، فلو نزل في محطة من المحطات فصلى الظهر والعصر فيجوز له أن يجمع ويقصر، فيقصر الصلاة ويجمع بين الظهر والعصر؛ لأن وصفه الآن مسافر.
إذاً: الأحوط والأرجح في الدليل أنه ليس له أن يقصر ولا أن يفطر إلا إذا تيقن أنه صار مسافراً، فيكون بذلك خارج البلد.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره، أي: يجازوها.
وقال الحسن: يفطر في بيته يوم يريد أن يخرج.
ولعله أخذه من قول أنس: سنة.
يقول ابن قدامة قول الحسن شاذ، وأول فعل أنس بقوله: فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجاً منه فأتاه محمد بن كعب في منزله، فلما كان فعل أنس يحتمل أنه قد يكون في منزله أو خارج من المنزل خارج البلد وأتاه محمد بن كعب هناك فبعد الاستدلال به، قال: ولنا قول الله عز وجل؛ لأن هذه القاعدة والأصل قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
إذاً: من كان شاهداً مقيماً يلزمه الصيام، والرخصة للمسافر وللمريض وهذا ليس واحداً من الاثنين فلا يوصف بكونه مسافراً إلا بعد خروجه من بلده.
وإن أصبح صائماً فسافر جاز أن يفطر في اليوم الذي سافر فيه، وهذا هو الراجح من حيث الدليل، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان مسافراً وصائماً فأفطر في آخر النهار، ولكن البعض الذي يمنع يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسافراً أصلاً من أول النهار، وقد نوى الصيام صلى الله عليه وسلم ولكنه كان مسافراً أياماً وليالي، وهذا اليوم الذي أفطر فيه من هذه الأيام كان بالليل مسافراً وبالنهار ليس مسافراً، وكلامنا ليس في هذا المجال، ولكن كلامنا فيمن أصبح وهو مقيم، فإذاً: على ذلك الآية تقول: {فَمَنْ شَهِدَ} [البقرة:185] وهذا شهد الشهر، هذا متعارض مع كونه في أول النهار كان شاهداً مقيماً وفي آخر النهار كان مسافراً فيلزمه أن يصومه، وهذا قول البعض.
يقول ابن قدامة في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه: هذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة؛ فالمسألة السابقة كانت على اليوم الذي هو مسافر فيه فهل يفطر من البلد أو بعد أن يخرج من البلد؟ أما هذه المسألة إذا نوى الصيام من الليل وأصبح صائماً، فجاء وقت الظهر فبدا له أن يسافر فهل له أن يفطر؟ فالبعض يمنع، لأنه كان شاهداً حاضراً فلزمه حكم الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وليس مسافراً في أول النهار.
البعض الآخر يقول: له أن يفطر، وهو قول: عمر بن شرحبيل والشاعري وإسحاق بن راهويه وداود بن علي الظاهري وابن المنذر، وهذه رواية عن أحمد رحمه الله وهو الراجح من حيث الدليل، لحديث أبي بصرة الغفاري أنه ذكر أنه سنة، وأبو بصرة كان في البلد بعدما ركب المركب وتحرك وهو يرى البيوت فأفطر، فلما سئل قال: سنة، فدل على أنه إذا أصبح صائماً وركب وتحرك به المركب أو القطار ونحوه له أن يفطر بعد ذلك؛ لأن أبا بصرة فعل ذلك وقال: سنة.
وأيضاً أنس على أحد التأويلين فعل ذلك وقال: سنة.
والدليل العقلي: أنه لو كان مسافراً بالليل واستمر سفره بالنهار يبيح له الفطر في ذلك، فإذا وجد في أثنائه أباحه، كالمرض فالإنسان إذا كان مريضاً بالليل وتوقع أن يصبح بالنهار والمرض ما زال به، فله أن ينوي الإفطار ويكون مفطراً بالليل وبالنهار، فكذلك في أمر المسافر، إذا كان مسافراً بالليل وهو يعلم أنه لن يصل قبل آخر النهار من اليوم التالي فله ألا ينوي الصيام وينوي الإفطار بالليل، ويكون بالنهار أيضاً مفطراً، فوجد العذر بالليل فله أن ينوي بالليل أنه سيفطر في يومه الثاني، لأنه مسافر فيه فإذا وجد هذا العذر بالنهار بالمرض فله أن يفطر، فليقِس عليه ذلك في الصيام.
إذاً: المريض بالليل إذا نوى أنه سيفطر غداً؛ لأن المرض شديد ولن يعافى منه حتى النهار، فله أن يفطر، فإذا أصبح سليماً ومرض بالنهار فله أيضاً أن يفطر، فالمسافر قياساً عليه إذا كان بالليل مسافراً فنوى أنه غداً سيفطر لأنه في حالة سفر، فله ذلك، فإذا وجد السفر في أثناء النهار الذي صام فيه، فله أن يفطر قياساً على المرض؛ ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما، فأباحه أثناء النهار كالآخر.
الرواية الثانية وهي التي