الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا في الحديث السابق أعذاراً ذكرها الله سبحانه تبارك تعالى في كتابه وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته فيمن يباح له أن يفطر في نهار رمضان، قال الله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وذكرنا أن دلالة الاقتضاء هنا تعطي معنى أن من كان منكم مريضاً فأفطر في نهار رمضان فعليه عدة من أيام أخر، ومن كان منكم مسافراً فأفطر في نهار رمضان فعليه أن يصوم مكانها عدة من أيام أخر.
وذكرنا أن المرض هو أي مرض يشق على الإنسان معه الصوم، فإذا كان المرض يسيراً لا يشق معه الصوم ولا يعتبره الكثيرون من الناس شيئاً من المرض كالجرح في اليد، أو خلع الضرس فهذا ليس من المرض الذي من أجله يفطر الإنسان، لكن إذا أصبح يشق عليه، ويحتاج إلى تداوي، أو أنه يرهقه ويتعبه في صيامه، فيكون هذا مرضاً معه يترخص بأن يفطر في نهار رمضان، وعليه عدة من أيام أخر.
وإذا كان مسافراً والراجح أن السفر هو ما سمي سفراً عرفاً، فله أن يفطر فيه، ونقول: إن أقل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسافة سافرها وقصر فيها الصلاة أنه سافر ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال شك الراوي في العدد، والثلاثة الأميال تساوي ستة كيلو تقريباً، وثلاثة فراسخ تساوي حوالي ستة عشر كيلو تقريباً، فعلى ذلك الاحتياط فيها أن تكون أقل مسافة هي ثلاثة فراسخ.
ويشترط أن يكون بين آخر العمران في بلده وبين البلدة التي يذهب إليها على الأقل مثل هذا القدر الذي هو ثلاثة فراسخ، فيجوز له أن يقصر من الصلاة، بل يستحب له ذلك، ويجوز له أن يفطر في السفر، وقد ذكرنا أن الراجح أن يعمل الأيسر عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر في السفر صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة كانوا يسافرون فمنهم الصائم ومنهم المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض، فيجوز للإنسان المسافر أن يتم صومه، ويجوز له أنه يفطر فما كان أيسر عليه فعله.
إذا سافر أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه إذا ركب وخلف بلدته وراءه، وهنا بعض العلم يقول: قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وكثير من العلماء يقولون: إنه إذا أصبح صائماً فهذا شاهد ولزمه الصوم، فلو أنه سافر يلزمه أن يتم صيام اليوم، لكن الراجح في ذلك أنه حتى ولو أصبح صائماً فكما يجوز له إذا مرض أن يفطر فيجوز له إذا سافر أن يفطر أيضاً ويجوز أن يمسك، والدليل ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم -اسم مكان- فصام الناس، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شربه فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة)؛ لأنهم كانوا مثبطي عدوهم بعد ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعد العصر وهذا دليل على أن الإنسان قد يكون صائماً في أول اليوم ثم مع مشقة السفر يفطر في آخر اليوم، وهذا جائز له.
فإذا سافر الصائم يجوز له بعد أن يدخل في حكم المسافر أن يترخص بالإفطار وله أن يتم صومه.