بواعث تدليس الشيوخ

تدليس الشيوخ له بواعث كثيرة، من هذه البواعث: أولاً: محبة الإغراب، فيريد أن يبين للناس أنه رجل كثير المشايخ، فيغرب الاسم عن الذين يسمعون ويقفون على الإسناد، فيبحثون ويشق عليهم البحث حتى يأتوا بهذا الراوي.

والإغراب هذا إما أن يكون نيته فيه حسنة، وهو الاختبار، ليختبر أذهان العلماء، كما قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: وهذا حسن غير مذموم، وهو أن تختبر الطلبة عندك، أو تختبر المشايخ، ولذلك الذهبي كان تلميذ ابن دقيق العيد وتلميذ ابن تيمية أيضاً، فـ ابن دقيق العيد علم بانشغال الذهبي بعلم الرجال، فأراد أن يختبره فسأله: يا أبا عبد الله! من هو أبو محمد الهلالي؟ فهو أغرب الكنية فقال له الذهبي: سفيان بن عيينة، فانبهر ابن دقيق العيد من شدة استحضار الذهبي، والذهبي كما قلت كان فحلاً، وفارس الميدان في علم الرجال، فانبهر منه ابن دقيق العيد، وقال: هنا المصلحة، أي: بين أن المصلحة في الإغراب أن تختبر حفظ التلميذ أو الشيخ.

الباعث الثاني: إن كان يقصد هذا لبيان تكثير الشيوخ فهذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فهذا فيه نوع من الذم وإن كان أخف من تدليس الإسناد.

كذلك من البواعث على تدليس الشيوخ: الإحن التي توجد بين التلميذ والشيخ، فقد يوجد تشاحن بين التلميذ وشيخه، كما حصل للإمام البخاري مع محمد بن يحيى الذهلي، فـ البخاري روى له ديانة، وكان يغرب في اسمه، وهذا غاية الإنصاف من الإمام البخاري رحمه الله؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، فهذا هو ميزان العدل، فإذا سئلت عن رجل وتعلم ديانته وتعلم ما هو فيه من علم ودقة وإتقان، لا بد أن تتكلم عنه، لكن عندما تهواه وتحبه وتمشي معه ترفعه، وعندما تغضب تنزل من قدره، فهذا قدح فيك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، ولذلك محمد بن يحيى الذهلي أقام الدنيا على البخاري ولم يقعدها، وهذا حسد منه صراحة على البخاري؛ لأن البخاري دخل نيسابور فاتجهت الأفواج المفوجة إلى البخاري صاعقة الحفظ لتسمع منه؛ فحسده محمد بن يحيى، فتكلم فيه، وقال: هو يقول بخلق القرآن، ووشاه عند الأمير، حتى إن البخاري من شدة غمه مما يحدث له قال: اللهم اقبضني إليك الساعة، ودعا على نفسه بالموت خشية الفتنة، فما مر أسبوع إلا وقد مات.

لكن لما دفن -انظروا كرامات الأولياء- قال الراوي: والله لقد اشتممنا رائحة المسك من قبره شهراً لم تنقطع، والبخاري معلم من المعالم في الإسلام، وفعل محمد بن يحيى أراد به إبعاد الناس من الحضور له، ولذا قد يحجب الشخص الناس عن سماع الخير؛ لأنه يعلم أنه لو سمعوا من غيره سيعلمون ضعفه، وهو لا يريد ذلك، أو نقول: لو أنه جعل الناس يذهبون إليه ضاعت السلطة التي كان يبحث عنها؛ فهذه هي المصيبة الكبرى التي ابتلي بها الإخوة الملتزمون في هذه العصور، فنحن الآن الضرر علينا ليس من الخارج، لا تقولوا لي: إن الدواعي الأمنية عندنا كذا والدواعي الشرطية كذا نحن في دعوة سرور ونعمة بفضل الله سبحانه وتعالى، وعافية ما بعدها عافية، ولذلك ما استباح بيضتنا إلا نحن من الداخل فقط، كما قال ابن القيم يعتب على هؤلاء الذين جعلوا الأخوة في الله غربة داخل غربة، وصنفوا الناس هذا يسمع له! وهذا لا يسمع له! وإذا تكلمت عن عالم من علماء الأمة -بل هو من لجنة الفتوى مثلاً- يقول لك: لا، دعك من هذا لا تأخذ منه شيئاً، وهذا الذي يتكلم لا يعرف (ألف باء تاء)، والله لا يعرف شيئاً عن العلم ولا طلب العلم! فـ محمد بن يحيى الذهلي حسداً على البخاري حوط على طلبة العلم، ومنع الناس أن يسمعوا للبخاري، ومنع أحداً أن يحضر جلسة البخاري، وكان أنبل تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي هو مسلم، وكان موجوداً في حلقة محمد بن يحيى، فقال على الملأ: من حضر لهذا المسمى محمد بن إسماعيل فلا يحضرن مجلسي أو لا يجلسن معنا، فقام مسلم في وسط الحلقة -وكل الحلقة تتمنى أن تشتم رائحة مسلم، وهذه رفعة للذهلي؛ لأن التلميذ يرفع شيخه- وأخذ كتبه فرحل وهجر مجلس الذهلي من أجل البخاري، ولما ذهب إلى البخاري يسأله عن حديث، فقال: هذا الحديث فيه علة، فجاء مسلم يتململ تحت يد البخاري، ويقبل يده ورجله ويقول: دعني أقبل يدك ورجلك، ما علة هذا الحديث؟ فلما أخبره قال له: دعني أقبل رجلك يا أستاذ الأساتذة، أو كلمة نحوها، ثم قال: لا يبغضك إلا حاسد.

مسلم يفهم أنه لا يبغضه إلا حاسد، وسمع منه العلل، ولكنه لم يرو له للمسألة التي حدثت أولاً وهم من طبقة واحدة، والأمر الثاني: مسألة العنعنة واللقيا هذه التي باعدت بينهما حتى جعلت مسلماً لا يروي عن البخاري.

الغرض المقصود هنا كانت المشاحنة بين البخاري وبين الذهلي، فكان البخاري يروي عنه ديانة؛ لأنه يعلم أنه حافظ ثقة، كان الذهلي جبلاً، يقول أحمد بن حنبل: ما رأينا مثل الذهلي في نيسابور، أعلم أهل نيسابور هو محمد بن يحيى الذهلي، فكان رجلاً جبلاً، وكان أتقن الناس وأثبتهم في رواية الزهري، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري، فكان البخاري يروي عنه ديانة، وهذا هو الإنصاف، وأنا أردت أن أبين لكم هذا الإنصاف وهذا الدين، وهذا من باب الدين النصيحة، يعلم أنه رجل متقن فأخذ منه، لكن كان البخاري يغرب باسمه؛ لأنه لو قال: محمد بن يحيى الذهلي فكل التلامذة سيقولون للبخاري: لم ترو عنه؟ فهم أولاً: سيقولون: روايتك عنه تعديل له، فإن كان عدلاً عندك وثقة فما قال فيك هو الحق، فهو خشي من ذلك، والبخاري في نفسه يقول: إن محمد بن يحيى كان متأولاً، فيعتذر له كما يعتذر للكرابيسي، فقد كان من تلاميذ الشافعي وكان قريناً للإمام أحمد، فقال الكرابيسي: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا كلام حق؛ فإن لفظه مخلوق، لأن لفظه خرج من لسانه، ولسانه مخلوق، فيكون كل آلة يستخدمها مخلوقة، فهو يقصد ذلك، وهذا كلام صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره، لكن أحمد أراد أن يحسم المادة، ويسد الذريعة، فقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أحمد قال ذلك، ونحن نقول: كيف يقول أحمد ذلك؟ أيكفر رجلاً يقول قولاً صحيحاً؟ فبحثنا ونقبنا وفتشنا فوجدنا عبد الله بروايته عن أبيه قال: فسألت أبي عمن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: إن قصد الصوت فليس بكافر، وإن قصد كلام الله فهو كافر.

فيكون إذاًَ أحمد هنا يفصل المسألة، ويقول: لو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقصد الآيات فهو كافر، وإن قصد الأصوات فليس بكافر، لكنه لما قالها على الملأ، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، إنما ذلك سداً للذريعة، فاعتذر للإمام أحمد من أجل ذلك.

فـ البخاري يعتذر أيضاً لـ محمد بن يحيى الذهلي ويقول: لعله يفعل ذلك حسماً للمادة، فعذره وروى عنه، وهذا من الإنصاف والديانة، وهذه إن وجدتها الآن بين طلبة العلم أو بين المشايخ مثلاً والعلماء فستجد النصر للدين؛ لأن هذه لا تدل ولا تنم إلا على أن المراد واحد وهو الله جل في علاه، ونصر الدين ابتغاء وجه الله جل في علاه.

فـ البخاري كان يغرب ويقول: محمد، ولا يسميه، فلا يقول: محمد بن يحيى الذهلي، ويقول مرة: محمد بن عبد الله، أو محمد مجرداً من غير نسبه، أو ينسبه إلى جده.

فهذه عرفت عن البخاري وليس فيها تدليس على الناس، لكن فعل ذلك من أجل المشاحنة التي حصلت بينه وبينه، فهذا باعث من بواعث تدليس الإسناد.

كذلك من بواعث تدليس الشيوخ: التكبر، وهذه مذمة مشهورة (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين.

أحياناً ترى التلميذ يروي عن الشيخ، وإذا نظرت في التراجم تجد أن التلميذ أكبر من الشيخ بسنوات عديدة، فيكون إذاً التلميذ يروي عن شيخ أصغر منه، فهذه تجعل هذا التلميذ يقول: كيف أروي عن شيخ أصغر مني؟! وكيف يأخذ الناس مني هذا الحديث؟! فيغرب ويأتي بتدليس الشيوخ ويكنيه بكنية لا يعرفها، حتى يقال: إن هذا الشيخ هو أكبر منه، ولا يقولون: إنه يروي عن شيخ أصغر منه، وأذكر قصة لطيفة جداً وهي قصة ابن عيينة والأعمش، وقد قلتها أكثر من مرة.

الأعمش لما نزل إلى مكة وقابل ابن عيينة فكان يقول له: حدث الزهري بأربعة أحاديث لفلان، قال: حديث بحديث، وهذا فيه تبادل منفعة درهم بدرهم، قال له: آخذ منك حديثاً للزهري وأنت تعطيني حديث فلان، فقال ابن عيينة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015