فأما جمهور المحدثين فقالوا: هذا من الغلط بمكان، بل كل عنعنة لمدلس في الصحيحين لا بد أن تمر، قلنا: لم؟ قالوا: لأمور عدة أولها: أن صاحب الصحيح هو البخاري، جبل الحفظ، وطبيب العلل، وهو عالمها؛ لأنه أخذ علم علل الحديث من علي بن المديني، وهو نفسه قال: ما استصغرت نفسي عند أحد كما استصغرتها عند ابن المديني.
وأما مسلم فقد أخذ علم علل الحديث من شيخين جبلين وهما: محمد بن يحيى الذهلي، فقد كان وتداً عظيماً، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري، فـ مسلم أخذ عنه.
كذلك أخذ عن البخاري، فهو جبل في علم العلل، وهم الذين قعدوا التقعيدات المهمة جداً بأن عنعنة المدلس لا تمر، فلا يمكن أن يقعد البخاري هذه القاعدة ويأتي في الصحيح فيخرج من القاعدة، وكتابه أشرف الكتب، وفيه أشد الاجتهادات التي اجتهد فيها البخاري في تصنيف هذا الكتاب؛ لحاجة الناس إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن البخاري قال: صنفت هذا الكتاب من ثلاثمائة ألف حديث، فهو يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف من الضعيف، قال: فانتقيت من ذلك هذا الكتاب، وهو لا يأتي عشر هذه الأحاديث، فهذا يدل على حرص البخاري وتحريه جداً في أن تكون الأحاديث كلها من الصحاح.
الوجه الثالث: كما قلنا عن البخاري أنه كان يستخير الله في كل حديث يكتبه.
كذلك الإمام مسلم رحمه الله يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة -وأبو زرعة كان آية في الحفظ في ذلك الزمان- فكان إذا علَّم أو أشار لي على حديث أن فيه علة علمت عليه وتركته.
فمعنى ذلك أن كتاب الصحيح مر على مسلم ومر على أبي زرعة الحافظ الثقة الثبت، فإذا ضيعنا أبا زرعة ومسلماً وقلنا: إنهم ما أدركوه، فهذا اتهام صريح لـ مسلم ولـ أبي زرعة، هذه وجهة نظر الذين ينافحون عن الصحيحين.
وقالوا أيضاً: عندنا إجابات أخرى غير هذه الإجابات، وهي: أن العنعنة التي في مسلم ليست كالعنعنة في غير مسلم والبخاري؛ لأنكم لو نظرتم فستجدون العنعنة التي في مسلم عن مدلس لا يدلس إلا عن ثقة كـ ابن عيينة، وهذا بالإجماع أحاديثه تمر، كذلك البخاري ومسلم يروون عن مدلس إلا إذا كان مكثراً من الحديث، قليل التدليس، كـ سفيان الثوري، فإنه كان علماً معلماً كان رجلاً حافظاً بحراً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والبخاري نفسه الذي أخرج له في صحيح البخاري قال عنه: ما سمع الثوري من حبيب بن أبي ثابت، ونحن لا نوافقه على هذا، فقد وردت أدلة تدل على أنه سمع، ولكن مقصود البخاري أن الثوري لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت، قال: ما سمع من حبيب بن أبي ثابت وعدد، ثم قال: ما أقل تدليس الثوري! فتدليس الثوري قليل في بحر أحاديثه، وقلنا: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
توجيه آخر: أنهم لما رووا عن مدلسين ما رووا عن أي مدلس، وليس المدلس الذي يروي عن الضعفاء وغيرهم، وإنما رووا عن بعض المدلسين الثقات الذين لا يدلسون إلا عن ثقة، أو يكون أحدهم بحراً في الأحاديث.
الوجه الثالث: يقولون: لو قلنا بأن هناك من يدلس عن الضعفاء وأدخلوا أحاديثه في كتاب الصحيحين فهذا قول له وجهة نظر، قلنا: ما هي هذه الوجهة؟ قالوا: لأنهم ضمنوا عدم التدليس عن الضعفاء أو التصريح بالسماع ممن يروي عن هؤلاء المدلسين، كأمثال الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، وكثيراً ما يرد في الصحيحين إن نظرت إلى هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتدليس الالتقاء، فـ البخاري ومسلم لا يرويان عنهم إلا برواية أخرى متصلة، وهذا ليس حصراً، لكن أقول: هذا الغالب، فيرويان عن شعبة، وشعبة قد قال: قد كفيتكم تدليس ثلاثة: تدليس أبي إسحاق، وتدليس قتادة، وتدليس سيلمان بن مهران الأعمش، فقالوا: وأيضاً يرويان كذلك عن يحيى بن سعيد القطان الذي يروي عن الثوري، وهو الذي تكفل لنا سماع الثوري؛ لأن ابن القطان ما كان يرضى بحال من الأحوال أخذ الأحاديث عن الثوري حتى يبين له سماعه، ويحيى بن سعيد القطان كان يروي عن أبي إسحاق بواسطة، فلا يروي عنه مباشرة، وإنما يروي عن زهير عن أبي إسحاق، وهم قالوا: نحن نأتي بهذه الرواية وفيها أبو إسحاق مدلس، لكن ابن القطان كان يأخذ من زهير سماع أبي إسحاق، وكان ينتقي من رواية زهير ما انتقاه من سماعات أبي إسحاق، فمكانه أيضاً يرضى بتدليسه، فإذا وجدت الرواية عن يحيى بن سعيد عن أبي إسحاق بواسطة زهير، فاعلم أنه انتقى من أحاديثه السماعات، ولو كانت عنعنة فتحمل أيضاً على السماع.
الوجه الرابع: قالوا: نحن نحسن الظن بأصحاب الصحيح؛ لأن مسلماً كان يقول: كنت أعرض الحديث -يروي الحديث بإسناد عالٍ فيه عنعنة المدلس- لشهرة المتن، يعني: المتن مشهور وصحيح ما يحتاج إلى أحد، قال: ولم أنزل بالإسناد، فكان يعلو بالإسناد ولا ينزل لشهرة المتن، ولذلك قالوا: العنعنة تقبل في من هذه الحالة؛ لأن الحديث في كل أحواله سواء فيه العنعنة أو غير العنعنة قد اشتهر بين أهل العلم أنه من الأحاديث الصحيحة، فلا حاجة لنا أن نتكلم فنقول: هذه عنعنة ولا يستدرك على مسلم.
وهذه الأوجه من إجابات ابن حجر والنووي على الدارقطني في استدراكه على مسلم والبخاري في نفس المسألة.
فهذه الإجابات كلها لجمهور المحدثين الذين أحسنوا الظن بالصحيحين، وعموماً لا نستطيع أن نخالف الجمهور، ولسنا ممن يكون من الاجتهاد بمكان حتى يفصل في النزاع بين المحققين الذين قالوا: قاعدة التدليس لا بد أن نمرها على الصحيحين وغيرهما، لكن الأسلم لنا أن نكون مع الجمهور، لا سيما وأن فحل علم النقد وعلم الرجال المحدث الشهير الذهبي، أنه بعدما ترجم لـ خالد بن مخلد القطواني قال: ولا أدري كيف يروي البخاري لمثل هذا الرجل، ولولا هيبة الصحيح وسكت.
فـ البخاري ومسلم أوقفوا الذهبي في أن يتكلم في مثل هذه المسائل، فهذه المسائل صراحة لا بد لنا أن نسلم فيها بإحسان الظن بـ البخاري ومسلم.
وقد أعياني حديث مهم جداً، وهو حديث هشيم بن بشير، وهو مدلس تدليس التسوية، وتدليس التسوية ليس بالهين؛ ولذا يشترط العلماء في تمرير الإسناد الذي فيه تدليس التسوية: أن العنعنة تلغى من أول الإسناد إلى آخره، يعني: لا بد من التصريح بالسماع من أول الإسناد إلى آخره، فلا يكتفى بأن هشيماً يقول: حدثني شيخي، بل لا بد من التصريح بالسماع من الطبقة التي فوقه، والطبقة التي بعده؛ لأنه يسوي، فإذا كان يسوي في التدليس فيمكن أن يعملها في أي طبقة من طبقات الإسناد، فلذلك لا بد من التصريح في طبقات الإسناد.
وقد أعياني البحث كثيراً في كثير من الروايات التي أجد فيها رواية الأعمش أو غيره يعنعن صراحة في مسلم، وقد وجدت في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم كثيراً ما يأتي بالروايات التي تصرح بالسماع، وهذا من فوائد المستخرجات، من أهم فوائد المستخرجات أنه دائماً يبين لك التصريح بالسماع، أو يبين لك الانقطاع أين هو بالضبط، أو ضعف الراوي بالمتابعة والمشاهدات والشواهد، فهو له فوائد كثيرة، لكن هشيماً ما وجدت له تصريحاً بالسماع.
وأعياني البحث أيضاً أنني لم أر أحداً استدرك على مسلم هذا الحديث الذي فيه تدليس التسوية، وهشيم بن بشير يعنعن، والحديث كله مليء بالعنعنة، ومع ذلك لم يستدرك الدارقطني هذا الحديث، وهذه جعلتني أقف وأقول: أسلم شيء على الإنسان أن يقف مع الجمهور، ولا يتكلف أو يتنطع.