نتحدث اليوم إن شاء الله عن تدليس الإسناد في الصحيحين، أي: عنعنة المدلس في الصحيحين، ولا يقال: إن عنعنة المدلس في الصحيحين قليلة، بل الصحيح الراجح أن في كتاب البخاري ومسلم أحاديث ليست باليسيرة، بل أحاديث كثيرة جداً فيها عنعنة المدلسين، كأمثال هشيم بن بشير، والوليد بن مسلم وسفيان بن عيينة والزهري وسليمان بن مهران الأعمش وأبي إسحاق السبيعي، ومعهم قتادة وابن جريج والحسن البصري، فكل هذه الأسماء أسماء مدلسين، وقد عنعنوا في الأحاديث وذكروا في البخاري ومسلم بالعنعنة، فما الحكم في هذه المسألة؟ جمهور المحدثين يفرقون بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، فيرون إفراد الصحيحين بحكم غير حكم الكتب الأخرى.
فيقولون: أي عنعنة في البخاري أو مسلم وردت عن هؤلاء المدلسين، فهذه تحمل على الاتصال ولا تحمل على الانقطاع، فانبرى لهم قلة من المحققين المتأخرين، كـ ابن دقيق العيد والحلبي وابن المرحل والمزي، فهؤلاء ما ارتضوا هذا التفريق بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، ولذلك لما سئل المزي في سؤال صريح عن عنعنة الأعمش وقتادة وأمثال هؤلاء في الصحيحين، فقال: هم يحسنون الظن في الشيخين، أي: في أصحاب الصحيح؛ لأنهم لما سألوه قالوا: جمهور المحدثين يحملون عنعنة المدلسين في الصحيحين على الاتصال، فقال: يحسنون الظن بالشيخين، وكأنه لا يرضى بهذا، لكن صرح ابن دقيق العيد تصريحاً تاماً أنه لا يرتضي بهذا الكلام، وأن الصحيحين كغير الصحيحين، ويقول: قالوا: بأن الأحاديث التي في الصحيحين تقبل عنعنة المدلس فيها لاحتمالين: الاحتمال الأول: إجماع الأمة على قبول هذين الكتابين، وهذا الإجماع فيه عسر، يشق على الإنسان أن يبين لنا إجماع الأمة بذلك، إلا أن يقول: قد تلقت الأمة هذه الأحاديث بالقبول، ومع ذلك يقولون: إلا أحرفاً يسيرة انتقدت، كما انتقد الدارقطني وغيره على البخاري ومسلم بعض الأحاديث، فهذه ينخرم بها الإجماع، فتلقت الأمة الأحاديث بالقبول، فيقول: هذا الاحتمال الأول، ويشق على الإنسان أن يأتي بالإجماع.
الاحتمال الثاني: أن أصحاب الصحيح قد اطلعوا على الرواية التي فيها العنعنة من طريق آخر فيه اتصال، قالوا: وهذا إحسان ظن بأهل الصحيح، وهو محتمل.
إذاً: تكون هنا العنعنة احتملت الانقطاع ورواية البخاري لعنعنة المدلس تحتمل أنه سمعه، أو نقول: فيها اتصال، وهذا الكلام مع أن فيه احتمالاً لكن ليس بأكيد، أو ليس بمقطوع به، فلذلك لا يصح لنا أن نمرر عنعنة المدلس، مع أن القاعدة عند المحدثين العامة هي: أن كل مدلس قد عنعن في الإسناد لا بد أن نوقف الحكم على حديثه حتى يصرح بالسماع، قالوا: فإن لم يصرح فلا نمشي هذه الرواية، فالقاعدة العامة لا بد أن يعمل بها في الصحيحين وفي غيره.