تكلمنا عن الكتب التي خرجت أحاديث في مثل قوة الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم، أو ما يناهزها، وذكرنا منها المستخرجات والمستدركات، ثم ذكرنا منها مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك كتب السنن، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وكذلك يوجد بعض الأحاديث بأسانيد نظيفة ومتينة في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، أما المعجم الصغير ففيه من الغرائب والعجائب الكثير.
وكذلك في مسندي أبي يعلى والبزار، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء، يعني: هذه الكتب المصنفة كلها فيها أحاديث كثيرة صحيحة، وربما أخذت في الصحة مرتبة أعلى من مرتبة بعض الأحاديث عند البخاري ومسلم، وليس معنى كلام ابن الأخرم أن البخاري ومسلم فاتهما الشيء اليسير من الصحيح.
وفي هذه المسانيد والأجزاء والفوائد والمعاجم ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منها، لكن لا يكون ذلك إلا من المتبحر في هذا الشأن، أي: في كلام وقرائن ومصطلحات أهل العلم في التصحيح والتضعيف، يعني: لا يكون التصحيح والتضعيف مبنياً على الوجد أو العقل، فتجد من يحكم على حديث بالضعف؛ لأنه لا يمكن أن يعقل، وأنتم تعرفون أن هناك نابتة في كل زمان ومكان تقول بهذا، وهؤلاء تلامذة وأبناء المعتزلة في كل زمان ومكان يحكمون العقل ويقدمونه على النقل، فتجد من يحكم على حديث من الأحاديث بالضعف فإذا سألته: لماذا؟ قال: لأنه لا يتفق مع العقل، وهو على كل حال لا يتفق مع العقل الغبي، إنما يتفق مع العقل السليم، فيظن أنه لم يخطئ.
يقول: (ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه)، أي: بصحة كثير من الأحاديث التي وردت في هذه الكتب والمسانيد والمعاجم والأجزاء والفوائد.
قال: (بعد النظر في حال رجاله، وسلامته من التعليل المفسد)، أي: التعليل الذي يفسد صحته.
قال: (ويجوز له الإقدام على ذلك)، أي: ويجوز للمتبحر الإقدام على التصحيح والتضعيف لهذه الأحاديث الموجودة في غير الصحيحين إذا كانت له القدرة والمؤهلات التي تجعله يتفوق في هذا المجال.
قال: (وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النووي، وخلافاً للشيخ أبي عمرو بن الصلاح).
لأن ابن الصلاح أغلق باب الاجتهاد مطلقاً، فضلاً عن الاجتهاد في علم الحديث، يعني: هو بدأ بإغلاق باب الاجتهاد في الحديث، ثم سحب هذا الحكم على عموم الاجتهاد.
قال: لا يوجد اجتهاد، وما كان كان، والذي لم يكن لم يكن، ثم قال: الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم هذه صحيحة قطعاً، والأحاديث التي حكم عليها أهل العلم بالصحة أو الضعف فهي صحيحة أو ضعيفة، لا خلاف على هذا، وأما الأحاديث التي لم يحكم عليها أهل العلم بصحة ولا ضعف، ولا توجد في كتاب من الكتب التي التزمت الصحة، فنتوقف عن قبولها والعمل بها.
وهذا الكلام خطأ، وهو حجة عليه؛ لأن كونك تتوقف عن العمل بها هذا ذاته حكم، وهو رد، وهو اجتهاد لكن الإمام النووي رد على ابن الصلاح رداً مفحماً جداً بقوله: ما الذي يمنع المتبحر من الحكم ومن الاجتهاد؟ فكم ترك السابق للاحق! وكثير ممن لحق تفوق على من سبقه، فما فائدة إغلاق باب الاجتهاد.
وإغلاق باب الاجتهاد في كل زمان ومكان مصيبة على الإسلام وعلى المسلمين، ولكن بشرط أن يكون المجتهد ملتزماً بالبصيرة العلمية، لا يأتي شخص ويقول: بقي للاجتهاد كذا شهراً، فأنا سأجتهد.