المذهب الثاني: وهو مذهب من يحملها على التغليظ، وهذا المذهب قد شاع عند بعض المتأخرين من أهل السنة كذلك، ونسبوه إلى السلف، فقالوا: إن السلف يذهبون إلى أن هذه الأحاديث في الوعيد الاسمي -وبعضهم طرد هذا حتى في وعيد الآخرة- إنما هي من باب التغليظ والترهيب، وليست على ظاهرها أو حقيقتها ..
وهذا القول أيضاً بدعة لم ينطق بها السلف، وإنما موجب إضافتها إلى طائفة من السلف: أنه جاء عن بعض السلف أحرف قد كانت زمن السلف من المفصل، وصارت زمن المتأخرين من المجمل ..
فقد قال طائفة من السلف -مثلاً-: أمروها كما جاءت.
وهذا كما قالوا في الصفات، أي: ترك تفسير أحاديث الوعيد، ولما سئل بعضهم عنها قال: هي على ما قال الله ورسوله، وعلى ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فكان بعضهم -أحياناً- يترك التفسير لها، ففهم من هذا بعض المتأخرين أنهم ما كانوا يذهبون إلى أنها على حقيقتها وظاهرها، فقالوا: إذاً يراد بها الترهيب والتغليظ ..
فتفسير هذه النصوص بهذا المذهب طرداً وقصراً هو من باب تفسير المرجئة، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "من التزم أنها ترهيب محض فهذا من جنس تفسير الفلاسفة".
أي: من جنس قول المتفلسفة الذين عطلوا الوعيد عن حقيقته، وأنكروا حقيقة الثواب والعقاب الجسماني.
إذاً هذا قول منكر على هذا الوجه، وإن كانت هذه النصوص -بلا شك- تسمى ترهيباً، ويراد بها الترهيب والتغليظ، ولكن الذي قصد المصنف وغيره من أئمة السنة إبطاله هو أنه لا يصح أن تقصر على مجرد الترهيب الذي معناه أنها لا حقيقة لها في نفس الأمر.
ومثال ذلك: أن نفي الإيمان الذي ورد في قول الشارع صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) له حقيقة؛ فالزاني لا يسمى مؤمناً.
فإن قيل: كيف لا يسمى مؤمناً؟
قيل: لأن الإيمان هو ما ذكره الله بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ومن صفاتهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] وهذا لم يحفظ فرجه؛ فلا يسمى مؤمناً، فهذا تطابق مع القرآن وليس مخالفةً له.
إذاً لا شك أنها تغليظ وترهيب، لكن من قصد أنها تغليظ وترغيب بمعنى أنها لا تفسر، أو أن معانيها غير معلومة، أو أنه لا حقيقة لها ..
فكل هذه المعاني بدعة من بدع المرجئة، ومن نسبها إلى أحد من السلف فقد غلط عليه.