قبل أن ننتقل عن تقرير الفرق بين قول مرجئة الفقهاء وقول السلف، يمكن أن يلخص هذا الفرق من أوجه؛ لأن هذا الفرق يتلخص عند المتأخرين بجملة من الألفاظ، والمعتبر هو أن تذكر الحقائق المتضمنة لهذا الفرق، فإن بعض الحنفية المنتصرين لقول أبي حنيفة يقولون: إن الخلاف بين أبي حنيفة وأمثاله، وبين العامة من السلف خلاف لفظي، ومنهم من عبر بأن هذا الخلاف من الخلاف الصوري، أما الإمام ابن تيمية رحمه الله فإنه يقول: "إن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي".
ويقول: "إن بدعة حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من الفقهاء من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد".
وهذه التعبيرات في حقيقتها ليست تقريراً للفرق بقدر ما هي أوصاف لهذا المذهب وحقيقة مخالفته.
أما القول بأن الخلاف لفظي، فهذا تعبير حنفي لم ينتصر له إلا من يعظم قول أبي حنيفة من الأحناف، وهو مائل إلى الإرجاء.
وهذا التعبير لا شك أنه غلط؛ فإن الخلاف بين الجمهور من السلف، وبين أبي حنيفة وحماد وأمثالهم ليس خلافاً لفظياً، ولاسيما أن السلف الأول لم يعرفوا هذا المصطلح -وهو مصطلح الخلاف اللفظي- وإنما درج على هذا المصطلح أهل النظر، حيث يعبرون به عن المسائل التي لا ثمرة للخلاف فيها؛ أي: إنما اختلفت الألفاظ ..
وهذا لا شك أنه غلط، بل الخلاف اللفظي في هذه المسألة إنما هو في جمل الأئمة في تعريف الإيمان، فإن منهم من يقول: الإيمان قول وفعل، ومنهم من يقول: قول وعمل، ومنهم من يقول: قول وعمل ونية ..
فهذا هو الذي يصح أن يقال: إنه خلاف لفظي؛ لأنه لا ثمرة له، بل المعنى متفق على التمام.
وأما قول حماد ومن وافقه كـ أبي حنيفة وقول العامة من السلف فإن الخلاف بينهما ليس لفظياً على هذا التقرير.
ولهذا من عبر بأنه لفظي أو صوري وأطلق فإن قوله هذا غلط وفيه توهم كثير.
وأما شيخ الإسلام رحمه الله فإنه لم يعبر بهذا في شيء من كتبه، وإنما قال: "إن أكثر الخلاف لفظي".
ومراده بهذا أن الفقهاء كـ حماد وأمثاله يوافقون السلف في مسألة الأحكام في الآخرة من جهة وعيد أهل الكبائر، ويوافقون السلف في مسألة لزوم الواجبات، وفي الطعن على أهل الكبائر بالفسق
وأمثال هذه المسائل، ولم يرد الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الخلاف لا ثمرة له من كل وجه.
وكذلك قوله رحمه الله: "إن بدعتهم -يعني: الفقهاء- هي من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد .. " إنما هو مصطلح متأخر ينبغي أن يفقه على وجهه، فإنه يمكن أن يقال باعتبار آخر: إن بدعة حماد بدعة عقدية، فإنه تكلم في مسألة تعد من أصول العقائد، وإخراج العمل من الإيمان يعد غلطاً صريحاً على الشريعة، وعلى إجماع السلف الأول قبل ظهور مقالة حماد.
ومثل هذه التعبيرات من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيها نفس متأخر لا يقصد إلى نقدها أو عدم التحقيق لها، وإنما يقصد إلى ضرورة ولزوم فقهها على وجهها؛ حتى لا يفهم من قول شيخ الإسلام ويتبادر إلى ذهن ما أن هذه المسألة مما يسوغ فيها الخلاف أو الاجتهاد، أو أنه لا ينكر على حماد ومن وافقه، أو أن هذا ليس من باب الأصول وإنما هو من باب الفروع ..
فهذه التبادرات الذهنية لم يردها شيخ الإسلام رحمه الله، فإننا نجد أن شيخ الإسلام مع أقواله السابقة إلا أنه في مقام آخر يشنع على هذا القول ويقول: "إن أصحابه خالفوا السنة والكتاب والإجماع الأول -إجماع الصحابة- في إخراجهم العمل عن مسمى الإيمان"، وقال: "إن السلف ممن شارك هؤلاء في العصر أو سبقهم قد نصوا على أن العمل أصل في الإيمان ... " إلى غير ذلك.
أي: أن ابن تيمية رحمه الله يعارض هذا المذهب بشدة.
فتعبيره السالف في وصفه لهذا المذهب هو وصف يفقه على وجهه، ويمكن أن يقال: إنه يفقه من كلام شيخ الإسلام نفسه في مواضع أخرى.
وعليه فهذا اصطلاح حين يقال: إن هذا من بدع الأقوال، فمن قال: إن هذه من بدع الأقوال وأراد بذلك أن من قال هذا القول لم يخرج به عن مسمى السنة والجماعة من كل وجه، ولم يصبح من أئمة أهل البدع، فهذا مراد صحيح، وإن أراد به أن المسألة من الفروع، أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو أنها لم تخالف إجماعاً منضبطاً
أو ما إلى ذلك فهذا كله غلط.
وعلى هذا يصح أن يقال: إنها -أي بدعة الفقهاء- من بدع الأقوال، ويصح أن يقال أيضاً: إنها من بدع العقائد.
ومن قال: إنها بدعة عقدية؛ فإنه لا يمكن أن ينازع في قوله هذا، وإنما المهم أن يضبط هذا المراد.
إذاً تلخص لنا: أن تسمية بدعة حماد بن أبي سليمان ومن وافقه -أو ما يسمى بقول مرجئة الفقهاء- بدعةً قولية أو بدعة عقدية التحقيق فيه أن هذا اصطلاح وصفي، وإنما المهم في شأنه المراد به.
فمن قال: إنها بدعة قولية، وفسرها من جنس تفسير شيخ الإسلام فهذا صحيح.
ومن قال: إنها بدعة قولية، وأراد بذلك أنها من مسائل الفروع أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو لم ينضبط للسلف فيها إجماع، أو ما إلى ذلك من الافتراضات، فهذا قول غلط وإن كان اللفظ قد يكون مشتركاً.
وبعبارة أخرى: أن وصف بدعة الفقهاء بكونها بدعة قولية أو بدعة عقدية، يقال فيه: هذه ألفاظ أو أوصاف مشتركة، فقد يصح في مقام أن يقال: إنها بدعة قولية، وقد يمنع ذلك في مقام آخر، وكذلك تسميتها بدعة عقدية قد يصح في مقام ويمنع في مقام بحسب مراد من تكلم به.
ولهذا ليس المهم عند طالب العلم أن يحرر: هل نقول إنها بدعة قولية أو نقول: إنها بدعة عقدية، إنما المهم أن يحرر المعاني المرادة بهذه الأوصاف.