السؤال الثاني: هل أراد الجهم بن صفوان لما قال: إن الإيمان هو المعرفة العلم الإدراكي، أم أراد العلم القبولي ولكنه أخرج العمل منه؟
هذا أمر متردد فيه، والرجل ليس نزيهاً عن الأخذ عن الفلسفة، ومن المعلوم أن أساطين المتكلمين لخصوا كثيراً من كلامهم في مسائل أصول الدين عند المسلمين من فلسفة الفلاسفة إما فلسفة اليونان أو غيرهم، وقد كان يقال عند الفلاسفة: إن العلم هو أشرف المقاصد.
ويريدون بالعلم العلم الإدراكي، وليس العلم الذي عنه قبول؛ لأنهم لا يؤمنون بمقام العبودية لله سبحانه وتعالى.
فإذا قيل: ماذا أراد جهم بقوله هذا؟
قيل: هذا متردد، ف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يميل في تقاريره -وإن كان لا يصرح به- أن الجهم بن صفوان يذهب إلى أن العلم هنا هو العلم الإدراكي، ولهذا يعريه عن أعمال القلوب والقبول، ويرى أن الإيمان محض معرفة ..
فهذا فهم لكلام جهم.
والفهم الثاني: فهم أبي الحسن الأشعري، فقد قال الأشعري في مقالاته: "إن جهماً يقول: الإيمان هو المعرفة والعلم".
لكن لما فسر أبو الحسن الأشعري مقالة جهم ضمنها -كما في كتاب مقالات الإسلاميين- معانٍ قلبية كالمحبة والخضوع، فقال: "فإذا عرف محبةً وخضوعاً كان عنده مؤمناً".
فواضح من تفسير الأشعري لمقالة جهم أن الأشعري يفسر العلم عند الجهم بعلم القبول، ولكنه يغلو في تضييقه حتى يخرج جملة أعمال القلوب منه، ويخرج الأعمال الظاهرة منه.
فهذا هو التردد في تفسير كلام الجهم.
وقد تقدم أن شيخ الإسلام إذا أراد تفسير قول الجهم وحده فكأنه يميل في تقريره إلى أن جهماً يذهب إلى أنه علم إدراكي، ولكن يشكل عليه في كلام شيخ الإسلام نفسه أنه إذا تكلم عن مذهب أبي الحسن الأشعري فإنه يقول: "إن قول أبي الحسن هذا -أي: أن الإيمان هو التصديق- أصله قول جهم بن صفوان ".
مع أن أبا الحسن الأشعري قطعاً لا يقصد بالتصديق العلم الإدراكي، وإنما يريد علم القبول، فهل أراد ابن تيمية بهذا التردد في تفسير كلام جهم، أم أنه أراد أن الأشعري يشارك الجهم في الأصل دون التحقيق للقول؟
هذه مسألة تردد.
وقد يقول قائل: فما هو الراجح؟ أقول: لا يلزم العلم بالراجح، فـ الجهم أقل من أن نهتم بترجيح إلى أي المذهبين يذهب، لكن المهم أنه يذهب إلى مذهب باطل بدعي
إلخ؛ فالسلف كـ وكيع وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم جعلوا مقالة جهم بن صفوان كفراً، وقد نقل هذا شيخ الإسلام وغيره، وهذا ما أشار إليه المصنف في قوله: "وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية".