ظهور البدع في الإسلام

تقدم أنه إذا اعتبرت المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة أمكن القول أن أول نزاع وقع في اسم الإيمان، وتحقيق القول في مسماه، وقد حدث هذا في آخر خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

وفي آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حدث النزاع في القدر، وذلك زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير رضي الله عنه وبين بني أمية.

وقد ظهر القول في القدر في البصرة، ثم شاع في بلاد الشام، ودخل على بعض مدن الحجاز، وظهرت القدرية بقوليهم الغالي وما دونه.

وقد تقلد القول بنفي خلق أفعال العباد المعتزلةُ وجملةٌ من أصحاب الرواية، وإن لم يكونوا من كبار المحدثين، وإنما هم من رواة الحديث، وفرقٌ بين أعيان الرواة وبين أئمة الرواية، وعن هذا قال الإمام أحمد: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة".

وينبه -وإن كان الباب ليس في القدر- إلى أن ثمة فرقاً بين قول هذا النفر من رجال الإسناد في القدر، وبين قول المعتزلة، وإن كانت النتيجة في الجملة واحدة، فإن الفريقين يقولون بأن أفعال العباد ليست مخلوقة لله؛ لكن المعتزلة بنوها على مقدمات كلامية وأصول نظرية، وطردوا لها فروعاً أخرى في مسائل التكليف والتحسين والتقبيح وتحكيم العقل

إلى غير ذلك، بخلاف هذه الجملة من أهل الحديث؛ فإن قولهم لم يبن على علم الكلام، ولم يتفرع عنه كثير من النظر والفروع، وإن كانوا متأثرين بالمعتزلة في نتيجته الكلية.

هذه هي ثاني مسألة من المسائل الأصول التي حدث فيها نزاع.

وقد انقرض عصر الصحابة ولم يحدث نزاعٌ بين أهل القبلة في مسائل الإلهيات، أي: القول في أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله.

وفي المائة الثانية ظهرت بدعة التعطيل لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته على يد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثال هؤلاء من أئمة التعطيل، وظهر ما يقابله من قول غلاة المشبهة من أتباع الشيعة الإمامية، وأخصُّ مَنْ ذُكِر عنه مثل هذا القول هو هشام بن الحكم الشيعي الرافضي.

ثم شاعت الأقوال في مسائل الصفات، وظهر أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي، وانتسبوا إلى السنة والجماعة، وظهر في أقوال أهل التشبيه أتباع محمد بن كرام السجستاني من الحنفية، وقد كان مائلاً إلى شيءٍ من طرق التشبيه.

ثم شاعت هذه الأقوال وانتشرت، وإن كان قول السلف بقي محفوظاً بعد الأئمة على يد المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة؛ فإنه ما من طائفة من أتباع الأئمة الأربعة إلا وفيها محققون حافظون لمذهب الأئمة، وإن لم يكن أتباع الأئمة الأربعة -أعني: من انتسب إليهم من الفقهاء- على درجة واحدة؛ فإن منهم المنتحل لطريقٍ بدعيٍ معروف كبعض معتزلة الحنفية، والغلاة من متكلمة الأشعرية النظّار، ومنهم من هو متأثر بعلم الكلام تأثراً عاماً، ومنهم المبالغ في تقرير السنة الزائد على كلام السلف إلى قدرٍ من الغلو، كما هي طريقة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي في مسائل التكفير؛ فإنه يبالغ في مسائل التكفير ويزيد فيها بما لم يعرف عن السلف والأئمة كـ أحمد وغيره

إلى غير ذلك من الطرق التي ليس هذا موضعاً لذكرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015