[ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك.
فمن الأربع، حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه: (أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا.
فقال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان -ثم فسره لهم-: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير)
قال أبو عبيد: حدثناه عباد بن عباد المهلبي قال: حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه بذلك].
هذا الحديث من رواية ابن عباس حديث متفق عليه، وقد أخرجه الإمام مسلم -أيضاً- في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري، وتفرد به.
وهذا الحديث يعد من أشرف الأحاديث عند أهل السنة والجماعة في تقرير مسألة الإيمان ودخول العمل فيه، فهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام، فإنه لما جاء وفد عبد القيس قال: (آمركم بالإيمان بالله وحدة؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحدة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم) فلم يقل: أن تؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان).
وعليه فمن قال من المرجئة -وهذا يقوله حتى فقهاؤهم-: إن دخول العمل في الإيمان هو من باب المجاز؛ يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر الإيمان لهم هنا؛ لأن المعاني المجازية يصح نفيها!
وهذا غلط متين في تقرير المرجئة لمسألة العمل ودخوله في الإيمان، فإنه يلزم منه تفريغ النصوص من حقائقها الشرعية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا السياق لم يجبهم في تقرير مسألة الإيمان.
إذاً: في ذكره صلى الله عليه وسلم لهذه الخصال في تقرير اسم الإيمان إبانة لمسألتين:
المسألة الأولى: أن العمل داخل في مسمى الإيمان.
المسألة الثانية: أن العمل أصل في الإيمان؛ لأن الشارع لما فسر الاسم المطلق جعل مادة تفسيره بالعمل؛ فدل على أن العمل أصل فيه، ولا سيما أن القوم إنما سألوا عن الأصل اللازم الذي تقع به النجاة.
فإن قيل: إذا كانوا قد سألوا عن الأصل اللازم فلم لم يبين لهم صلى الله عليه وسلم المبدأ وهو تصديقات القلب؟
قيل: لأن القوم قد عرفوا أصول التصديق، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فقد كانوا مسلمين، ولهذا أبان لهم الأصل الظاهر وهو العمل.
أما قوله: (آمركم بأربع) ثم أمرهم بخمس ..
فهذا مما تتجوز فيه العرب، وإنما أراد أن الأربع هي أصول الإيمان، وما زاد عليها فمن الشرائع، كقوله: (وأن تؤدوا خمس ما غنمتم).
وقوله: (وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) هذه منسوخة على الصحيح، وهو مذهب الجمهور وأصح الروايتين عن أحمد، فقد كان هذا التحريم في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه: (نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)