[وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض].
مراده رحمه الله بالتواتر: هو مراد من ذكر لفظ التواتر من الأئمة كـ الشافعي وأمثاله، فهم يريدون بمتواتر الآثار أو بمتواتر الحديث: ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول ..
هذا هو المتواتر في مراد السلف، وهذا هو المتواتر في اقتضاء الشرع، وهذا هو المتواتر في العقل، وهو كثير في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان جملة مما يسمى متواتراً على هذا الوجه قد يكون أصله غريباً كحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)
وهنا مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي: مسألة الآحاد والمتواتر، فإن القارئ لكلام المتقدمين يجد أن منهم -كالمصنف والشافعي - مَنْ يذكرون لفظ متواتر السنة أو متواتر الأثر وما إلى ذلك، وهؤلاء مرادهم بالمتواتر ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول، وإن كان أصله قد يكون غريباً أو ما إلى ذلك.
وعليه فجميع أحاديث أصول الدين: كنزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث عذاب القبر وأمثاله ..
هي عند السلف من المتواتر.
وأما التقسيم الذي ذكر في بعض كتب المصطلح، وهو: أن السنة تنقسم إلى متواتر وآحاد.
وأن المتواتر هو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد: ما عدا المتواتر، فهذا التقسيم تقسيم بدعي باعتبار حده لا باعتبار لفظه، أما باعتبار لفظه فهو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
فإن من قال: السنة آحاد ومتواتر، والمتواتر: هو المستفيض، والآحاد: ما لم يستفض، أو المتواتر: هو ما أجمع على ثبوته، والآحاد: ما تردد في ثبوته عند أئمة الحديث ..
فهذا التقسيم بهذا الحد لا يعارض؛ لأنه تقسيم على قدر من الاصطلاح والمعاني المناسبة.
وأما إذا فسر المتواتر بما يوجد في بعض كتب الأصوليين، وكتب المصطلح المتأخرة، وهو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن الآحاد: ما عدا المتواتر.
وإذا تأمل الباحث تفصيل حدهم فإنه يجد أنهم قد اختلفوا في عدد الجماعة التي ذكروها في قولهم (ما رواه جماعة) وفي الغالب يستقرون على عشرة تقريباً، فيلزم أن الحديث لا يكون متواتراً عن رسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، فتكون الطبقة الثانية مائة، ورواه عن كل واحد من المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة
فإذا فسر المتواتر بهذا فهذا حد أصله من المعتزلة، وهو من بدعهم التي أدخلوها على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الطعن في آحاد روايات الصحابة منهج متقدم بدأه الخوارج، لكن لما جاء نظّار المعتزل نظروه على هذه الطريقة، ثم دخل على كتب الأصوليين.
فإن قال قائل: كيف دخل على كتب الأصوليين وهم يكتبون في أصول فقه الشريعة؟!
قيل: لا عجب؛ لأن أكثر من كتب في أصول الفقه هم المتكلمون، وأصل مادة المتكلمين المعتزلة، وقدماء النظار من الجهمية والأشاعرة والماتريدية أخذوا علم الكلام عن هؤلاء؛ فإن أبا الحسن الأشعري إنما أخذ علم الكلام عن المعتزلة، فقد كان معتزلياً ما يقارب الأربعين سنة من عمره.
إذاً لا عجب أن ترى هذا في كتب أصول الفقه كالمعتمد لـ أبي حسين البصري، فهو وإن كان حنفياً لكنه معتزلي، والبرهان لـ أبي المعالي الجويني، والمحصول لـ محمد بن عمر الرازي، والمستصفى لـ أبي حامد الغزالي
وهؤلاء كلهم أشعرية شافعية، وهم غالون في علم الكلام، وإن كان الغزالي متصوفاً من وجه آخر، فهذا باب آخر أيضاً.
وكذلك لا عجب أن يدخل هذا الكلام -أيضاً- على من نقل عنهم ممن يلخص كتب متكلمة أهل الأصول وإن لم يكن هو متكلماً، كـ الموفق ابن قدامة رحمه الله، فإن روضة الناظر في الجملة تلخيص من كتاب المستصفى لـ أبي حامد.
وكذلك علماء المصطلح من الحفاظ المتأخرين الذين قد ابتعد كثير منهم عن علم الكلام إلا أنهم تأثروا بأصحابه، فإنهم وإن اختلفوا عن المتكلمين إلا أنهم يشتركون معهم في النسبة والصحبة الفقهية.
ومثال ذلك: الحافظ ابن حجر، فهو ليس متكلماً ولا يقول بعلم الكلام، ويرى الميل إلى طرق السلف وآثارهم، لكنه شافعي متأثر بأصحابه الشافعية، الذين هم إما متكلمون أو على تأثر كبير بعلم الكلام.
فالمقصود: أن هذا الحد بمعناه بدعة في الإسلام؛ لأن أصحابه -أعني علماء الكلام الذين اخترعوه- لم يكونوا من أهل الرواية؛ فإن علماء المعتزلة على ما فيهم من القوة في باب العقليات وأمثاله إلا أنهم لم يكونوا من علماء الرواية، فهم لم يعتبروا حقيقة هذا التقسيم، وهل هو مطابق لواقع السنة وروايتها أم لا؟
ولما جاء من تقلد هذا التقسيم من الحفاظ -كـ ابن حجر وابن الصلاح مثلاً- أرادوا أن يبحثوا له عن مثال من السنة يصدق عليه بحسب أوجه الرواية والأسانيد والطرق أنه حديث متواتر، فكلما أوردوا مثالاً انقطع عليهم، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين العارفين بمخارج الأحاديث وطرقها: إن هذا الحد ليس له مثال.
ومنهم من يقول: له مثال أو مثالان.
فنقول: هب أن له عشرة أمثلة، فإنه يلزم من هذا أن عامة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليست متواترة، ونتيجة هذا أن عامة السنة تفيد الظن ولا تفيد العلم.
وقد رتب المتكلمون على هذا أن الأحاديث الآحاد لا يعتد بها في العقائد، وحقيقة قولهم هي أن السنة لا يحتج بها في العقائد، وهذا تأخير لمقام النبوة والرسالة؛ لأنه يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بعث لتقرير مسائل أصول الدين.
ولذا يجب إنكار هذا التعريف، وإن كان موجوداً في كتب ابن الصلاح وابن حجر رحمهما الله، فهؤلاء وإن كانوا أئمة حفاظ، لكن هذا التقسيم ليس من بنات فكرهم، بل هو تقسيم من النظار المتكلمين، وأصله من محدثات المعتزلة.
أما المتواتر في كلام الأئمة: فهو ما انضبط نقله، وتلقاه أئمة الحديث -الذين لهم اعتبار في ضبط الرواية- بالقبول.
وكثيراً ما يُرى الباحثون من أهل السنة وهم يجادلون المخالفين في مسألة الأحاديث المتواترة.
فنقول: هب أننا لا نحتج بالآحاد، وهب أننا سلمنا أنه لا يحتج إلا بالمتواتر، فالسؤال لمن يقرر هذا الكلام: أين المتواتر؟ أين الأحاديث المتواترة في اليوم الآخر؟ أين الأحاديث المتواترة في عذاب القبر؟ أين الأحاديث المتواترة في صفات الله؟ أين الأحاديث المتواترة حتى في توحيد الألوهية؟
لكن إذا اعتبر التواتر على معنى السلف؛ فإن الأحاديث في باب توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، والصفات، والقبر، والشفاعة
وأمثال ذلك تكون على هذه الطريقة جميعها متواترة.