وهنا قاعدة تطرد، وبها يعرف الجواب عن آيات الإيمان وأحاديثه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي: أن الإيمان يستعمل مطلقاً ويستعمل مقيداً، فإذا استعمل مطلقاً أريد به مراد، وإذا استعمل مقيداً أريد به مراد، والمرادان وإن اختلفا باعتبار السياقين إلا أن اختلافهما لا يستلزم اختلاف المراد بمسمى الإيمان في الشرع.
والمقصود باستعماله مطلقاً هو ذكره على وجه الإطلاق، إما بذكره باسم الإيمان أو بذكره صفة للمؤمنين.
فمن الأول: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه وأصله في البخاري: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس وهو في الصحيحين: (الإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)
ومن الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]
والمراد بالإيمان في هذا الاستعمال -أي: المطلق- الدين؛ فإن اسم الإيمان في السياقات السابقة تدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة.
مثلاً: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] هذا تحقيق للإيمان في القلب.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]
وقوله سبحانه وتعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) هذا الإطلاق يشمل الظاهر والباطن.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] هذا من مسائل القلب.
ثم قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] هذا من مسائل العمل.
فهذا بيان كون الإيمان قولاً وعملاً.
وأما الاستعمال المقيد فهو: أن يقترن بذكر اسم الإيمان اسم الإسلام أو العمل.
فمن الأول: قول الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بينهما.
ومن الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107]
وهذا الاستعمال يراد به وجه من الاختصاص، كأن يراد به أصل الإيمان الذي هو القلب، وهو الإيمان الذي ذكر مع الإسلام في قول الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فمن صريح السياق أن الإيمان أشرف من الإسلام، وإنما أريد بالإسلام هنا الظاهر من الأعمال؛ ولهذا قال: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
فإذا استعمل الإيمان في الكتاب أو السنة مقيداً فإن ما قارنه أو قيده -وهو الإسلام أو العمل الصالح- يكون خارجاً عن مسماه -أي: عن مسمى الإيمان- في هذا السياق وإن كان لازماً له، وخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم خروجه عن مسماه في سائر السياقات، والدليل على أنه لا يستلزم: أن الله أدخل الأعمال الصالحة في الإيمان في ذكر الإيمان المطلق؛ فخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم الخروج في سائر السياقات، فضلاً عن الحقيقة الإيمانية الشرعية التي هي مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي هي مجموع السياقات المطلقة والمقيدة.
وهذا الأصل من فقهه بان له تفصيل السلف في هذه المسألة، وبان له أن غلط المرجئة من عدم فقههم لهذا الأصل.
وهذا الأصل هو الطريق المحقق في هذه المسألة، ويتفرع عنه أن الإيمان له أصل وله كمال، وأنه يزيد وينقص.