قال المصنف رحمه الله: [ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعاً اسم الإيمان فيقال لأهله: مؤمنون].
قوله رحمه الله: (ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها) هذا إلحاق بما ذكره في شأن مسألة الزكاة، وهو لا يريد بهذا أن كل شرائع الإسلام تعطى الحكم الذي ذكره في مسألة الزكاة وقتال أبي بكر لمانعيها، وإنما مراده أن الإيمان ابتدأ بذكر الشهادتين، ثم كلما نزلت شريعة من الشرائع فإنها تكون داخلة في مسماه.
أما أن الشريعة الواحدة إذا تركها قوم، وقاتلوا على تركها، وامتنعوا عنها يكفرون بذلك فإن هذا ليس مراداً له؛ فإن هذا أمرٌ اختص بمسألة الزكاة وأمثالها من المسائل الكبار.
وأما ما دونها من المسائل فإن هذا الحكم لا يلزم أن يكون مطرداً فيها.
[وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله، كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: (أن تؤمن بالله ..) وكذا وكذا، وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان، ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن].
هذا كله تقرير لاستدلاله الأول: أنه كلما نزلت شريعة من الشرائع التحقت باسم الإيمان.
وهو بهذه الطريقة يشير إلى أصل عند المرجئة في الجملة -من الفقهاء وغيرهم- في تقريرهم لمسألة الإيمان، وهو أنهم اعتبروا ظاهر جملة من النصوص النبوية وكذلك جملة من الآيات القرآنية التي فيها ذكر الإيمان قبل ورود العمل، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] فأثبت لهم الإيمان قبل ثبوت العمل، فإن المدعو إلى فعل العمل ثبت له الاسم قبل فعل العمل.
وقد سبق تقرير استدلال السلف بهذا النوع من الآيات -وهي آيات النداء-.
ومن هنا نقول: إن كثيراً من الآيات في باب الإيمان هي محل تردد من جهة الاستدلال بين أئمة السلف وبين المرجئة، والفقهاء هم أخص طوائف المرجئة استدلالاً بآيات القرآن، بمعنى أن مرجئة الفقهاء -كـ حماد ومن وافقه من المتقدمين من الفقهاء- ما كانوا يستعملون في الاستدلال على قولهم الجمل الكلامية أو الأصول الكلامية النظرية التي أدخلها غلاة المرجئة فيما بعد، إنما كانوا يعتبرون بعض ظواهر النصوص.
وأما الجواب عن قول المرجئة: إن الله ناداهم باسم الإيمان قبل فعلهم العمل؛ فدل على ثبوته قبل ذلك.
فيقال: هذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فإنه بإجماع أهل السنة وبإجماع أئمة السلف المخالفين لأئمة المرجئة من الفقهاء وغيرهم، أن الناس قبل فعلهم العمل -الذي ابتدأ ذكره بخطاب مختص- على الإيمان، وإنما الاعتبار بتحقيق هذا الأمر بعد وروده، فمن حققه فقد استكمل الإيمان وزاد إيمانه، ومن لم يحقق الأمر؛ فإن كان الأمر في الأصول فتركه فقد ترك أصل الإيمان، وإن كان من مسائل الفروع فتركه فقد نقص إيمانه.
وعلى هذا يمكن القول من وجه آخر: إن استدلال المرجئة فرع -وقد أشار إلى هذا المصنف- عن قولهم: إن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص.