أما مسألة هل يكفر تارك الزكاة أو لا يكفر فإنها مسألة نزاع، ولو سلِّم أن هذه الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة كافرة بإجماع متحقق؛ فإنه لا يلزم من هذا أن ترك الزكاة يكون كفراً؛ لأن هذه الطائفة ليس أمرها في ترك الزكاة فحسب، بل أمرها في اجتماع ترك الزكاة مع الامتناع والقتال.
وللأئمة أقوال في كفر تارك الزكاة:
القول الأول: أن ترك الزكاة كفر، ولو كان التارك فرداً من المسلمين، فلو أن شخصاً واحداً وجبت عليه زكاة ماله فترك الزكاة، ولم يؤد من ماله زكاة إلى أن توفي؛ فإنهم يجعلون تركه للزكاة وهجره لها كفراً مخرجاً من الملة، فيوافي ربه بالكفر على هذا الافتراض، ومن هنا يمكن أن يقام عليه حد الكفر إذا حقق عليه قضاءً
إلى غير ذلك.
وهذا المذهب مذهبُ ضعيف، وقد نسب إلى ابن عباس، وإن كان لم ينضبط صحةً عنه، ونسب إلى سعيد بن جبير وبعض كبار فقهاء الحجاز؛ ولهم دلائل على ذلك ليس هذا موضع تفصيلها، لكن أخص ما يستدلون به أن الله ذكر الصلاة والزكاة في القرآن على الاقتران، وهذا وجه ليس بلازم.
القول الثاني: أن ترك الزكاة ليس كفراً.
وهذا المذهب عليه طائفة من الفقهاء، وهو المشهور في مذهب مرجئة الفقهاء ابتداءً، وعليه غيرهم من الفقهاء.
القول الثالث: أن ترك الزكاة ليس كفراً إلا إذا قاتل عليه، وهذه هي الرواية الراجحة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو الصحيح.
وأخص ما يستدل به كثير من الفقهاء الذين ينتصرون لعدم كفر غير المقاتل حديث أبي هريرة في الصحيحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها ...) إلخ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار) وهو دليل على أنه ليس من الكفار، بل من أهل الوعيد.
وهذا وجه صريح في الاستدلال من جهة السنة، وهناك وجه صريح من القرآن أن هذا مؤمن بالله ورسوله، ومصدق، ومصلِّ، ومؤمن بالله وملائكته ..
إلخ فلا يكون كافراً، وهذا الوجه ذكره الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن مسألة ترك الزكاة.
وبهذا يتبين أن السلف كانوا يفرقون بين حال من قاتل أبو بكر رضي الله عنه وبين حال من ترك الزكاة من الآحاد؛ فإن الإمام مالكاً يذهب إلى أن تارك الزكاة من الآحاد لا يكفر، ومع ذلك هو نفسه يذهب إلى أن من قاتلهم الصديق كانوا كفاراً مرتدين؛ مما يدل على أن ثمة تفريقاً عند السلف بين ترك الزكاة كآحاد وبين الذين قاتلهم الصديق من الممتنعين المنابذين لحجج الإسلام في القرآن والسنة، والتي استدل بها على وجوب دفع الزكاة
إلى غير ذلك، فهذه القرائن المجتمعة الظاهرة تدل على إباءٍ في القلب.
إذاً: تارك الزكاة إذا كان ممتنعاً يكون كافراً؛ ولذلك من دعي قضاءً إلى فعل الزكاة فامتنع عن أدائها، حتى قيل له: إن عقوبتك القتل ثم صبر على السيف؛ فإن هذا لا يكون إلا عن جحد وإباء، كما أن من دعي إلى الصلاة فلم يصلِّ حتى قتل فبالقطع أن هذا لا يقتل إلا كافراً مرتداً؛ لأنه يمتنع أن عاقلاً يصبر على السيف من غير كفر وارتداد وتكذيب في باطنه لهذا الحكم أو ذاك.
هذا ملخص لمسألة قتال الصديق رضي الله عنه لمانعي الزكاة، وما فيها من الخلاف بين المتأخرين والمتقدمين.
وهذا يدل على أن ثمة مسائل قد يحكي المتأخرون فيها مذهباً هو الشائع عند جمهورهم، ويكون مذهب الجمهور من المتقدمين على خلافه.
وعلى هذا ليس بلازم أن جمهور المتأخرين يوافقون جمهور المتقدمين، بل قد يكون العكس.
وقد تقدم أنه لم ينضبط عن أحد من السلف أنه صرح أن قتال الصديق لهؤلاء ليس قتال ردة، ومع ذلك لا يعتبر هذا الإجماع إجماعاً قطعياً ..
لكن قد صرح بعض الأئمة كالمصنف وغيره بكونه إجماعاً كفهمٍ في الإجماع، والله أعلم.