[والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها].
حصل في زمن أبي بكر رضي الله عنه القتال لثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: من ارتد عن أصل الإسلام، وأعلن الكفر بالله وبرسوله ..
فهؤلاء لا خلاف بين المسلمين أنهم كفار مرتدون.
الطائفة الثانية: من جحد وجوب الزكاة، ورأى أن الزكاة شريعة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك لا زكاة في الإسلام، فهؤلاء أيضاً بالإجماع المتحقق أنهم كفار؛ لأنهم جحدوا واجباً معلوماً من الدين بالضرورة بعد قيام الحجة عليهم.
الطائفة الثالثة: من لم يظهر جحد وجوب الزكاة، وإنما منعوا أداءها، وهم أهل شوكة ومنعة -أي: أهل قتال-.
وهذه الطائفة يقرر جمهور الفقهاء المتأخرين من أصحاب الأئمة -بعد طبقة الأئمة الكبار، والقرون الثلاثة الفاضلة- في كتب الفقه أنها طائفة باغية، وليست طائفةً مرتدة، وممن ذكر هذا وكرره ونسبه إلى الجمهور من الفقهاء الخطابي والنووي رحمهما الله وغيرهما، وهو موجود في كتب الفقه للمذاهب الأربعة.
ونزع جملة من فقهاء المذاهب الأربعة -وهم المحققون في مذاهب أئمتهم- إلى أن هؤلاء مرتدون.
أما قول السلف الأول في شأن هؤلاء فإن المشهور، والذي عليه التقرير في نقل أقوال المتقدمين من السلف أنهم كانوا ينزعون إلى أن هذه الطائفة طائفةٌ مرتدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والأئمة من بعدهم على قتال مانعي الزكاة، وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، ولهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها، وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله".
وقد غلَّط الإمام ابن تيمية طائفة من الفقهاء كـ الخطابي وغيره فيما قرروه من أن هؤلاء قوم بغاة.
وبهذا يظهر عدم وجود إجماع صريح على أن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة كافرة، لكن هذا هو المتقرر في كلام المتقدمين؛ فإنه لم ينضبط عن أحد من المتقدمين أنه جعل هذه الطائفة ليست طائفة مرتدة.
وقد أشار المصنف رحمه الله عند ذكر قصة أبي بكر ومراجعة عمر له إلى الإجماع بقوله: "والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء".
فهو التمس هذا الإجماع التماساً من القصة، لكن الإجماع الذي أشرت إلى أنه لم يصرح به عند المتقدمين: هو الإجماع الذي عليه تواردُ الكبار حتى تكون المسألة لا تحتاج إلى نظر، كإجماعهم على أن الإيمان قول وعمل
أما أن بعض المتقدمين فقه من القصة وجه إجماع عند الصحابة فذكره فهذا موجود، ومن أَخَصِ من ذكر هذا المصنف رحمه الله.
فكون هؤلاء الممتنعون أهلَ ردة هذا هو المعروف في كلام المتقدمين من السلف كـ مالك وأحمد والأوزاعي وأمثالهم، وهو المذهب الصحيح.