مذهب السلف في مرتكب المعصية

[وإن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً].

قوله: "لا تزيل إيماناً" أي: لا تزيل أصل الإيمان.

"ولا توجب كفراً" أي: لا توجب كفر الردة، ولا توجب اسم كفر النعمة على الإطلاق، وهذا من فقه المصنف؛ فإنه أراد أن مرتكب الكبيرة لا يصح أن يسمى كافراً، حتى لو أريد بالكفر كفر النعمة.

[ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم في مواضع من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] إلى قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].

قال أبو عبيد: فهذه الآيات التي شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله ونفت عنه المعاصي كلها، ثم فسرته السنة بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها، قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين ولا الأمانات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه].

أي: الإيمان الفاضل الكامل المطلق، المذكور في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وفي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة) وقال: (أدناها إماطة الأذى).

فهذا الإيمان الكامل الفاضل المطلق يتضمن الأركان والواجبات والمستحبات، فلا شك أن مرتكب الكبيرة ينفى عنه هذا الاسم، فهو لا يعتبر ممن قام بالإيمان على التحقيق والتمام.

وإذا قيل: ما المراد من هذا النفي؟

قيل: المراد أنه تارك لواجب من واجبات الإيمان، فإن الاسم الشرعي كاسم الإيمان لا ينفى إلا إذا كان المخاطب قد ترك ما هو واجبٌ فيه، وأما تفسير هذا النص بأنه نفي الكمال؛ فإن ابن تيمية يقول: "إن هذا تفسيرٌ غلط".

وقد ذكر ابن تيمية قاعدة وانتصر لها -وهي مستقرأة من كلام السلف- فقال: "إن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر -أمر الله به ورسوله- إلا إذا ترك بعض واجباته

ثم قال: أما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج، لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل".

ولهذا يقول: "فمن قال: أن المنفي هو الكمال.

فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله" قال: "والعرب لا تعرف نفي اسم إلا لترك ما هو واجبٌ فيه".

وهذا الكلام من شيخ الإسلام كأنه مفرع عن كلام المصنف رحمه الله؛ فإن المصنف كان يميل إلى هذه القاعدة، كما سيأتي توضيحه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015