قال: [فإن قيل فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك]؛ لأننا لو قلنا إنه يجوز أن يحتج بالقدر على المعاصي كلها في الماضي والحاضر والمستقبل، إذاًَ فلا شيء هناك اسمه: حدود؛ لأن ربنا هو الذي أمر بذلك، فهو سبحانه علم ذلك، وكتبه علي، وقدره علي، ولذلك لما أتى هذا الزاني إلى عمر بن الخطاب فاحتج بالقدر على المعصية، ثم أمر به عمر فكتف، قال له: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم، نضربك بقدر الله، مثلما أنت تقول: إن المعصية وقعت منك بقدر، فنحن نقول: إن الحد أيضاً بقدر، ودليل ذلك: قف مكانك، وجلده مائة جلدة، ولو لم يكن مقدراً أن يضربه مائة جلدة لم يكن يستطيع عمر أن يضربه، فتبين أن المعصية بقدر، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها إلا بعد التوبة منها، وأن الحد من قدر الله عز وجل، ونحن قد قلنا: إن هذا القدر هو ما قدر في الكون من خير وشر، وأن ذلك لا يقع في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته، إذاً الحدود أيضاً من قدر الله وفي قدرة الله تعالى.
قال: [فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة]، أي: لنا أن نلومه ونوبخه، وأيضاً نعاقبه ونقيم عليه الحد، وإن كان صادقاً فيما قال أن ذلك لم يقع إلا بقدر الله، لكن لا يجوز الاحتجاج به، ف
صلى الله عليه وسلم أن هذا العاصي باقٍ في دائرة الخير، وهذا فرق بينه وبين آدم، فآدم لما وقع فيما وقع فيه وتاب منه، وانتقل بعد الموت إلى دار أخرى، لكن الله بعثه جواباً لطلب موسى: أنا أريد أن أقابل آدم، خلق له آدم مرة أخرى ثم تناقشوا، لكن في الحقيقة لما لام موسى آدم عليهما السلام لامه في دار ليست محل تكليف؛ لأن الأصل في آدم أنه انتقل إلى دار لا لوم فيها ولا تكليف فيها، لكن العاصي الذي وقع في معصية في الدنيا إذا تاب منها بينه وبين الله تاب الله عز وجل عليه؛ لأنكم تعلمون أن الحد لا يجب قيامه إلا إذا بلغ السلطان، وهذا من الأساسيات الجوهرية في قيام الحد، وليس للأفراد أن يقيموه، حتى الوالد على ولده، والسيد على عبده، والرجل على امرأته، فلا يقيم أحد من عامة الناس الحد على أحد، وإنما يقيمه السلطان أو من ينوب عن السلطان، وكذلك إذا بلغ الحد للسلطان فلا يجوز للسلطان أن يقدم فيه ولا أن يؤخر، ولا أن ينزل من قدر العقوبة، ولا أن يزيد فيها؛ لأنها محددة من عند الله عز وجل، أما التعزيرات فهذه للرجل على امرأته، والوالد على ولده، والسيد على عبده وغير ذلك، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، وما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً في حد أقل من عشر، وما زاد النبي في تعزير أكثر من عشر، وقد تجد شخصاً آخر يعمل نفسه شهماً وهو أصلاً بخيل، فتأتي امرأته فتسقط طبقاً من الكئوس، فيعمل نفسه شهماً -وهو يغلي من الداخل- فيقول لها: أهم شيء سلامتك، وبعد ذلك يخرج ولا يستطيع أن يتحمل، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ثم يعود إلى بيته فيسألها عن صلاة الظهر، فترد عليه: أنها لم تصل، فيقوم بتوبيخها وتأنيبها، وهو في حقيقة الأمر أول مرة يسألها عن الصلاة؛ لأنه لا يستطيع أن يبيت، فلا بد أن يأخذ قيمة الكئوس.
قال: [فهو في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة، واللوم، والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل]، فهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فإذا مات فلا نظل نوبخه، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في الوقت المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخذيل، والله أعلم.
وهذا رأي واحد من أراء كثيرة ومتعددة، يقول: هذا اللوم والتوبيخ الذي وقع من موسى لآدم متعلق برجل خرج من دار التكليف ثم رجع إليها لمهمة وضرورة، فهو في الحقيقة لا يلام ولا يوبخ، ولذلك لما رد عليه آدم الحجة غلبه؛ لأنه ما كان ينبغي أن يلومه موسى عليه السلام.