قال الإمام ابن بطة: [ففي كل هذه الآيات التي مضت يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل الذي يملك الهداية والضلال، وأن الرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله]، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يهدي أحداً من الناس، وإنما الذي يملكه هو الله، والنبي عليه الصلاة والسلام سبب موصل لهداية الله، فالرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن العبرة بمجيء الرسول إليهم، والرسول جاء إلى أبي بكر وإلى أبي لهب، ونفس الذي بلغه رسول الله لـ أبي بكر بلغه لـ أبي لهب، فيقال حتى من جهة اللغة: جاء الرسول إلى أبي بكر وجاء الرسول إلى أبي لهب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ الاثنين، لكن الله تعالى أراد الهداية لـ أبي بكر وأراد الضلال والشقاء لـ أبي لهب.
إذاً: الهداية والشقاء بيد الله عز وجل، يريدها لعبد ويمنعها من عبد، ولو كان الرسل هم الهادون لكان كل من أرسل إليهم المرسلون مهتدين، سواء تبعوه أو لم يتبعوه.
ولذلك قال: [ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هداية الله لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم لما ضل أحد جاءوه]، يعني: لو كانت الهداية بيد الرسل لما أفلت من أيديهم أحد، لكن الهداية بيد الله.
أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا صلى الله عليه وسلم وحرصه على إيماننا حين يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، وفي قراءة: (من أنفَسكم)، يعني: من أحسنكم نسباً وأعظمكم شرفاً، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128]، يعني: يعز عليه عنتكم ومشقتكم، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] يعني: يقول لهم: أنا ما علي إلا البلاغ، ((وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ)) قد سبق في علمه أنه يضلكم، وأنكم ضُلال، وكتب عليكم الشقاء، فإنكم لا تقبلون نصيحتي مطلقاً، يعني: أنه هو لا يملك الهداية للخلق ولا الشقاء، وإنما الذي يملكهما هو الله عز وجل.
وهذا من عدل الله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن في ربه غير العدل، فلا يحل لك أن تظن بربك غير العدل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء).
والله عز وجل لا يقول هذا من باب التخيير، وإنما من باب التهديد، كما قال عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
فهذا صيغة أمر، والأمر يفيد الوجوب إلا أن يصرفه صارف، والأمر في اللغة على نحو اثنين وعشرين وجهاً، فقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] كلمة (فليؤمن) فعل أمر يدل على الوجوب، وهو على ظاهره؛ لأن المطلوب من العباد أن يؤمنوا بالله؛ لأن هذا أمر الله تعالى إليهم، وقوله: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، يعني: الذي يريد أن يؤمن يؤمن، والذي يريد أن يكفر يكفر، فالآية ظاهرها التخيير، ولكنه غير مراد هنا، وإنما هو تخيير تهديد، وهذا كما تقول لابنك: إذا أردت أن تذاكر فذاكر، وإذا لم ترد أن تذاكر فلا تذاكر، وقد نويت ضربه إن لم يذاكر، فأنت هنا لا تخيره في هذا، وإنما تهدده، بدليل أنك ستضربه إن لم يذاكر.
وكذلك قوله تعالى: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، فللكفار نار لا تهدأ ولا تنطفئ أبداً.
قال: [هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على نفسه، ولا يقول: كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه، وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته، والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه حتى كذبوه وردوا ما جاء به؟ ولقد حرص نوح على هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه مع أهله، فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب حين قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، أي: إنه ليس من أهل الإيمان، وهو وإن كان من أهلك -أي: من ولدك ومن نسلك- إلا أنه ليس في معسكر الإيمان، فهؤلاء هم الأهل الحقيقيون، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَ