قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله، أهل الحمد ووليه، المنان الجواد، الذي ثوابه جزل -أي: كثير- وعطاؤه فضل، وأياديه متتابعة، ونعماؤه سابغة، وإحسانه متواتر، وحكمه عدل، وقوله فصل، حصر الأشياء في قدرته]، أي: جعل كل شيء في قدرته ومشيئته، فلا يكون في الكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته، وهكذا السلف رضي الله عنهم إذا أراد أحد منهم أن يكتب رسالة أو يصنف كتاباً جعل مقدمة الكتاب دليلاً للموضوع، فإذا أراد أن يتكلم عن الإيمان جعل لهذا الكتاب مقدمة طويلة جداً في الإيمان ومسائل الإيمان واختلاف أهل العلم في بعض قضايا الإيمان وغير ذلك، ومثله إذا تكلم في القدر، أو في الملائكة، أو في الإنس، أو في الجن جعل المقدمة مناسبة للموضوع ودليلاً عليه ومدخلاً له.
قال: [حصر الأشياء في قدرته، وأحاط بها علمه] إذاً: تكلم هنا عن مرتبة العلم، وأيضاً مرتبة الإرادة.
قال: [ونفذت فيها مشيئته] وهذه مرتبة من المراتب.
قال: [وصلى الله على خير خلقه محمد النبي وآله وسلم.
أما بعد: يا إخواني! وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها]، وأقصد الطريق بمعنى: أقصرها وأقربها، ولذلك أنت دائماً تقول لآخر: أنت تكلمني كثيراً، أنا أريد أن تعطيني الموضوع مباشرة، أي: تدخل في الموضوع مباشرة من أقصر وأقرب طريق.
قال: [وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها، وأرشد السبل وأسواها، فهي طريق الحق التي اختارها وارتضاها، واعلموا أن طريق الحق أقصد الطرق]، أي: أن طريق الحق أقصر وأقرب الطرق في الوصول إلى الله عز وجل.
قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله في كتابه وجاءت به رسله]، انظر مراد الله تعالى يتحقق في العباد بأمرين اثنين لا ثالث لهما: بالكتاب والسنة، فهل يمكن لأحد أن يزعم أو يدعي أن الله تعالى أراد منا غير ما طلبه في كتابه وفي سنة رسوله؟ وهل يزعم أحد أن مراد الله تعالى من عباده خارج عن نطاق الكتاب والسنة؟ إذاً: أنت عندما تريد أن ترضي إنساناً مستحيل أن ترضيه أبداً؛ لأنه يتلوى ويتلون ويتلطف في مراداته ولا يكاد يفرغ منها، فكلما أرضيته بشيء طلب المزيد، وكلما أرضيته بالمزيد طلب أكثر من المزيد، بحيث تعجز أنت في النهاية عن تحقيق مراده ومرضاته، وإذا رضي عنك اليوم سخط عليك غداً، والعكس بالعكس.
أما الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- ورسوله عليه الصلاة والسلام فمرادهما في الكتاب والسنة، والله تعالى لا يطالبنا بشيء ليس في الكتاب، وكذا الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطالبنا بشيء ليس في السنة، وأريد أن أقول: إن مراد الله تعالى من العباد مذكور بغير زيادة ولا نقص في الكتاب والسنة، ويمكن بلوغ المرضاة وبلوغ الرضا لله عز وجل بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله تعالى في كتابه وجاءت به رسله، ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً]، أي: الدين ليس رأياً متبعاً من آراء الرجال، أو هوىً مبتدعاً، فدين الله تبارك وتعالى كله حق وصدق، والذي جاء في الكتاب وصحت به السنة ليس هو من الأهواء ولا البدع، وكل ما دون الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لا شك أنه إما قول لا دليل عليه، وإما هوىً مبتدعاً يأثم به صاحبه، كما قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فبين ابن القيم -عليه رحمة الله- أن العلم في الكتاب والسنة والإجماع، خاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليه.
قال: [ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً، ولا إفكاً مخترعاً، وهو الإقرار لله بالملك والقدرة والسلطان، وأنه هو المستولي على الأمور]، أي: ليس أمراً من الأمور يكون في الكون إلا بإرادة الله عز وجل.
قال: [سابق العلم بكل كائن] إثبات لمرتبة العلم، أي: أن الأشياء لا تقع إلا بعلم الله عز وجل، وأن الله لما علم ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.
قال: [ونافذ المشيئة فيما يريد سبحانه وتعالى، كان الخلق كله وكل ما هو فيه بقضاء وقدر وتدبير، ليس معه شريك ولا دونه مدبر ولا له مضاد سبحانه وتعالى، بيده تصاريف الأمور، وهو الآخذ بعقد النواصي، والعالم بخفيات القلوب ومستورات الغيوب، فمن هداه بفضل منه]، أي: من هداه الله فذلك بفضله سبحانه وتعالى.
قال: [فمن هداه بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر] أي: ومن خذله الله تعالى فهو الضلال بعينه بلا حجة ولا عذر، وأثبت الله تعالى أن أهل الهداية إنما كانت هدايتهم بفضله ورحمته وطوله، وأثبت أن أهل الضلال لا عذر لهم بين يدي الله؛ لأن الله تعالى أفرغ لهم العذر ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وميزهم بالعقل على غيرهم، فقامت عليهم حجة الله تعالى، وحينئذ فليحيا من حي عن بينة، وليهلك من هلك عن بينة، لأن الله تعالى أفرغ عذرهم فلا عذر لهم بين يديه يوم القيامة، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
فمن لم ي