الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: ففي أول شرحنا لكتاب ابن بطة عليه رحمة الله قلنا: إن الكتاب مكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الكلام عن الإيمان وما يتعلق به من مسائل، وهو يقع في مجلدين، وقد فرغنا منهما والحمد لله تعالى، ثم لخصنا الكلام فيما يتعلق بالإيمان ومسائل الكفر في محاضرتين أو ثلاث تلخيصاً بإذن الله تعالى لا يكون مخلاً بالمقصود.
الجزء الثاني من الكتاب وهو الذي يبدأ في الجزء الثامن: ما هو القدر؟ وما هي مسائله ومراتبه؟ ثم معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر، ثم الرد على من أنكر القدر، أو الرد على من قال: إن الإنسان مخير مطلقاً أو مسير مطلقاً.
وهذا الكلام كله يقع في مجلدين كذلك.
الجزء الثالث من الكتاب: الرد على الجهمية، ويقع في مجلدين كذلك.
وبالتالي فيكون مجموع الكتاب ستة مجلدات، اثنان منهم في الإيمان، واثنان في القدر، واثنان في الرد على الجهمية.
وموعدنا بإذن الله تعالى الليلة في الكلام عن القدر، وكل مسألة من هذه المسائل الثلاث أخذها طالب كرسالة دكتوراه أو ماجستير وبحثها، وكمنهج أكاديمي في الجامعة وفي الدراسة، إذ إنه لا بد من صناعة مقدمة لكل رسالة، فنجد -مثلاً- في هذا المجلد الثالث -وهو الأول من كتاب القدر- أكثر من مائتين وخمسين صفحة مقدمة، أظن أننا نكتفي بالدخول على المراد مباشرة من كلام المصنف، ولا حاجة بنا أن نعرج على كلام هذا الدارس أو هذا الطالب الذي صار دكتوراً أو أستاذاً كبيراً الآن، لكن على أية حال إنما يكفينا أن ندخل في القدر مباشرة.
والقدر تعلمون أنه سر من أسرار الله تعالى في خلقه، فقد ضلت فيه طوائف كثيرة خاصة في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ذلك من الصحابة، لكن هذه البدعة أول ما ظهرت في البصرة على يد الجعد بن درهم، وذلك لما قال: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فأتى حميد بن عبد الرحمن وغير واحد إلى المدينة فقالوا: لعلنا نوفق إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أن وفقهم الله تعالى لـ أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.
قال حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر: فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فقلت: لعل صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم.
أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة.
يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف.
وكأن أبا عبد الرحمن قال: أوقد فعلوها؟ أوقد ظهروا؟ وكأن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرهم من ذلك، فقال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: لست منهم وليسوا مني، وقد أخبرني أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -هذا هو الإسلام- قال: صدقت.
قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) وأعجب من ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن القدر وعن الكتابة والعلم السابق أخرج إبهامه فوضعه على لسانه ثم طبع به في كفه وقال: إن هذه لمكتوبة في اللوح المحفوظ، وإن الله تعالى علم أن علياً سيفعل ذلك في الأزل.
ولذلك ذهب الإمام النووي إلى نقل الإجماع على أن من أنكر علم الله تعالى فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة.