الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيما يتعلق بالكلام عن مسائل الإيمان فقد تكلمنا عن مسائل وأصول قد اتفقنا عليها ولم نختلف فيها، والحمد لله تعالى.
وقلنا: إن الإيمان عند السلف بالإجماع قول وعمل، أو هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، أو هو قول وعمل ونية، أو هو قول وعمل ونية واتباع للسنة، وكل هذه مصبها في نهاية الأمر إلى أن العمل ركن من أركان الإيمان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا المرجئة، بينما المعتزلة جعلوا العمل كله شرطاً في الإيمان، ولذلك يكفرون من لا يأتي به كالخوارج تماماً بتمام، لكن جعلوا له حكماً في الدنيا وحكماً في الآخرة، فجعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة خلدوه في النار، والخوارج الذين جعلوا العمل كله ولم يفرقوا بين جنس العمل وآحاد العمل، خلافاً لما كان عليه السلف رضي الله عنهم، إذ إنهم فرقوا بين جنس العمل، وأنه ركن من أركان الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وبين آحاد العمل، فينظر إلى آحاد العمل كل على حسبه، فإن كان العمل في أصل الإيمان فيبطل الإيمان بنقض هذا العمل، أو بترك هذا العمل، أو بمخالفة هذا العمل، وإذا كان من العمل الواجب كان من الإيمان الواجب، وإذا كان من العمل المستحب كان من الإيمان المستحب، وكلاهما يسمى بكمال الإيمان، أي: الإيمان الواجب والإيمان المستحب كلاهما يسمى بكمال الإيمان، فمنه الكمال الواجب ومنه الكمال المستحب، خلافاً لأصل الإيمان وهو جنس العمل، وأظننا قد اتفقنا على ذلك.
والليلة بإذن الله تعالى موعدنا مع سرد نصوص لكثير من علماء السلف يبينون في هذه النصوص أن العمل ركن من أركان الإيمان، وعليه فيمكن أن تكون الردة بمجرد ترك هذا العمل، أو الوقوع في مخالفة العمل.
يعني: السلف عندما يقولون: إن الإيمان قول وعمل، فهل يمكن أن يكون الإيمان عملاً دون أن يكون قولاً؟ إذا كان الإيمان لا يمكن أن يكون عملاً بغير قول محل اتفاق فكيف يكون قولاً بغير عمل؟! لأن هذا ركن وذاك ركن، وأنتم تعلمون أن الركن ما كان داخلاً في ماهية الشيء، ولا يكون الشيء إلا به، فإذا كان العمل من أركان الإيمان فلا بد من الإتيان به، كما أن القول لابد من الإتيان به، كما أن الاعتقاد القلبي لابد من الإتيان به، فهذه أركان الإيمان عند السلف، فلا يمكن أن يثبت الإيمان لأحد إلا بثبوت هذه الثلاث: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح.
ويمكن أن ينقض الإيمان من أصله ويرتد المرء عن دين الإسلام بالقول؛ لأن القول ركن، فثبت القول، أو التقول بما يكفّر يكفر به صاحبه، وكذلك الاعتقاد، وكذلك العمل، لكن مناط البحث كله والإشكالية الدعوية المطروحة على الساحة: هل يمكن ثبوت الردة بالعمل المجرد أم لا بد من الاستحلال القلبي؟ يعني: هل يمكن أن يعمل الإنسان عملاً يكفر به من غير استحلال، أو من غير نظر وسؤال هل هو مستحل أم لا؟ هذه هي القضية كلها.
صلى الله عليه وسلم نعم، إذ إنه عند السلف من الأعمال ما يكفر بها العامل دون نظر واشتراط للاستحلال، والمرجئة قالوا: لا بد من الاستحلال، وهذا القول بلا شك قول مخالف لما كان عليه سلف الأمة رضي الله تعالى عن الجميع، لكني أذكر بما قلت آنفاً في الدرس الماضي: أنه لا يلزم من القول ببعض ما كانت تقول به بعض الفرق الضالة النسبة إلى هذه الفرقة، أي: ليس كل من وقع في البدعة مبتدع، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، ولذلك إذا قال بعض من ينسب إلى العلم مقولة وافق فيها الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة أو الخوارج فلا يكون مرجئاً ولا معتزلاً ولا خارجياً إلا أن يتبنى أصول الخوارج، أو يتبنى أصول المعتزلة؛ لأن المرء لا ينسب إلى الفرقة التي يقول هو بأحد أقوالها إلا إذا كانت أصوله هي أصول هذه الفرقة، يعني: أنا الآن يمكن أن أقول قولاً ثم أفاجأ بعد ذلك بأن هذا هو قول المرجئة، أو هو قول المعتزلة، فهل يلزم من هذا القول أو من قولي بقول المعتزلة أن أكون كذلك؟ لا يلزم؛ لأنه يمكن أن يكون هذا الكلام خرج مني مخرج الجهل وأنا لا أدري، وظني أنه معتقد أهل السنة والجماعة، فلا بد أن ينظر إلى أصل استقامة هذا الرجل، هل هو مستقيم على السنة فخالف في هذا؟ فإن خالف فلا تعد هذه المخالفة هي السبب في نسبته لهذه البدعة، أو أن الأصل فيه الابتداع والانحراف حتى وإن وافق أهل السنة لا يكون منهم.
كما في الدرس الماضي ضربت مثلاً بإمامين عظيمين: أحدهما في البدعة، والآخر في السنة، وهما: أبو حامد الغزالي وابن تيمية، إذ إن الأصل في ابن تيمية الاستقامة على منهج السلف، فإذا قال ابن تيمية قولاً وافق فيه الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة -حاشاه أن يكون كذلك- فهل هذا يسوغ أن يكون هو من أهل هذه الفرق أو منسوباً إليها؟ لا يمكن أبداً، لكننا نحمل هذا الكلام على الخطأ البشري الذي لابد وأن لكل إنسان نصيباً فيه.
أما أبو حامد الغزالي فالأ