وهنا باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من غلب على ظنه أن نهيه عن المنكر يسبب له مضرة عظيمة تذهب بماله أو بنفسه، والمصلحة في التغيير راجحة وعامة، كانت العزيمة أن يضحي بنفسه، لكن لو كانت المضرة ستلحق العامة فلا يفعل، فمثلاً: لو أنني ذهبت لكسر صنم بوذا، فهل هذه المصلحة العائدة عامة أو خاصة؟ عامة، لكني على يقين أن حراس هذا الصنم سيقتلونني وحدي، فهل يجوز لي والحالة هذه أن أذهب وأنا على يقين أو غلبة الظن بالهلكة؟ يجوز؛ لأنني سأضحي بنفسي في مقابل نفع العامة، لكن لو أنني عملت عملاً سيجر علي وعلى من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، ويرميهم في السجون أو غير ذلك من المضرة العامة؛ ففي هذه الحالة لا يجوز لي أن أغير هذا المنكر، مع اعترافي وإقراري واعتقادي بأنه منكر، لكن ربما لا يتغير هذا المنكر، ولا تتصور أنك بمجرد ما تذهب لتكسير ملهى ليلي أنك بذلك تكون قد غيرت المنكر.
ولذلك نحن نقول: من أصول الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهي عن المنكر يقتضي تغييره، أي: تغييره حتى يصير معروفاً، أما إن ذهبت وكسرت الملهى الليلي الفلاني فأنا بذلك لم أغير المنكر، بل إنه سيبنى على أحدث طراز، فكانت هذه بركة أتت منك؛ لأنهم كانوا من زمن يريدون هدمه ولم يستطيعوا، فعندما ذهبت وعملت الذي عملته، قاموا هم وأكملوا بقية الملهى، يعني: كأني لم أكسره وأفجره، إذ إنهم بأنفسهم أصحاب الملهى فجروه؛ حيث أنه عندما يأتي بعد ذلك التعيين، أي: تعيين المكان، فالإرهابيون هم الذين كسروا الملهى الفلاني، إذاً فهذا يبنى على نفقة الدولة، على نفقتي أنا وأنت، ألم أقل: إننا نكون الدولة؟ ألسنا بمجموعنا نمثل الدولة؟ إذاً: فالملهى الفلاني بني على نفقة الدولة، يعني: على نفقتي ونفقتك، والسؤال الآن: هل زال المنكر؟ لم يزال، بل أدى إلى منكر أعظم، وهو إرجاع هذا المنكر على أحدث طراز، والمنكر الثاني أنهم لما قبضوا علي قبضوا على من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، فالمصلحة هنا ليست متحققة أبداً، ولا حتى مظنونة، إذاً فما المتحقق؟ الضرر العام.
ففي هذه الحالة هل أنا مكلف شرعاً أن أغير هذا المنكر؟
صلى الله عليه وسلم لا، إذ إنني مكلف أن أغيره بقلبي أو بلساني، فأقول: أيها الناس! حرام عليكم، أيها الناس! لا يجوز هذا، أيها الناس! ربنا قال كيت والرسول قال كيت، فإن سمعوا فخير وبركة، وإن لم يسمعوا فقد أديت الذي عليًّ.
ويبقى بعد ذلك أن أغير بقلبي، ولذلك العلماء يقولون: إذا جلست في مجلس فيه منكر، فإما أن تأمر وتنهى، أي: تزيل هذا المنكر، وإما أن تزول أنت عنه، فمثلاً: أنا عندما أجلس على مائدة، وبعد ذلك يأتي أناس يوزعون على الجالسين قوارير من خمر، فأنا لو كنت أعلم أنه سيكون كذلك لم أذهب، ثم سألت: ما هذا؟ قالوا: هذا خمر، لكن خمر على مستوى رفيع، فأقول: هذا حرام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، والله عز وجل قال كذا وكذا، فيقولون لك: ساعة لقلبك وساعة لربك! كيف هذا الكلام؟ النبي عليه الصلاة والسلام لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر، سواء من شرب أو لم يشرب، فقبل أن أقوم قلت لهم: حرام عليكم، وأقمت عليهم الدليل من القرآن والسنة وقول العلماء، وخوفتهم فلم يرتدعوا، فما المطلوب إذاً؟ أخرج من عندهم، فإما أن تزيل المنكر وإما أن تزول أنت عنه.