فهذه بعض المسائل التي لها تعلق بالإيمان، ونلخص من ذلك إلى أن الكفر كما يكون بالقول وبالاعتقاد يكون بالعمل، وهذا بيت القصيد في الخلاف الدائر على الساحة، هل الردة تكون بالعمل أم لا؟ السلف رضي الله عنهم أجمعوا على أن من الأعمال ما يكفر بها فاعلها، ومنها ما لا يكفر بها فاعلها، خلافاً لمن يزعم أن العمل شرط كمال، وأن العامل لا يكفر بعمله إلا إذا استحل، كيف ذلك؟ أنا رجل -عياذاً بالله- أسب الله تعالى، أو أسب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع هذا أنا أقر دائماً أني أحب الله، وأحب الرسول عليه الصلاة والسلام وأحب الشرع، وأحب الإسلام، كما أقر أن هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل، وهو كلامه المنزل من السماء المتلو الذي نزل بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام؛ وفي الوقت الذي أقر فيه بهذا الكلام آخذ المصحف بيميني فأمزق أوراقه وأبصق عليه وأرميه في الأرض وأطؤه بقدمي، لكن هذا الشخص لم يستحل ذلك، بل هو مثبت لتبجيله وتعظيمه بلسانه وقوله، لكنه عملاً قد أهان القرآن، فهل هذه الإهانة لكتاب الله عز وجل تؤهله للكفر؟
صلى الله عليه وسلم نعم، فيكفر بهذه الإهانة لكتاب الله حتى وإن قرر في الظاهر بلسانه أنه غير ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: لا يكفر بمجرد الفعل، أي: بإهانته للقرآن أو سبه لله أو للرسول أو للشريعة أو غير ذلك، ويقولون: هو ما فعل ذلك إلا لأنه مبغض للقرآن لا لمجرد الفعل، وهذا استنتاج المرجئة والجهمية، وهو كلام فاسد لا يعرفه السلف، وجاء على ألسنة متأخري الأحناف، إذ إنهم يقولون: إذا ارتكب الإنسان ما يكفر به أو ما يؤدي به إلى الكفر فليس العمل وحده كافياً في الحكم عليه بالكفر، وإنما نحكم عليه بالكفر لأن عنده من الضغينة ما يؤهله للكفر، كيف ذلك؟ قالوا: لو أن شخصاً الآن يهين القرآن الكريم، فمجرد الإهانة لا يكفر بها، قالوا: بل إن علامة كفره أنه مبغض للقرآن ولذلك أهانه، وأوردوا هذا الكلام أو الاستنتاج الباطل لكي يقولون: لا يكفر المرء بالعمل، وإنما يكفر بالاستحلال، من أين أتيتم بالاستحلال؟ قالوا: هو ما أهان القرآن إلا لأنه مبغض له، فنكفره لأجل بغضه القرآن، لا لأنه أهان القرآن، أما أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا أن العمل بمفرده يكفر به العامل.
هذه بعض المسائل التي أردت أن أنبه عليها قبل الشروع في شرح هذه الأصول، ثم ذكر أقوال العلماء سلفاً وخلفاً في إثبات أن الكفر يقع بالقول والاعتقاد والعمل، وهذا الذي أريد أن أؤكد عليه من أن الكفر كما يقع بالقول يقع بالعمل.
يعني: لو قام رجل الآن في المسجد وقال: أيها الناس! اشهدوا أنني كفرت وخرجت من الملة، وهو في حقيقة الأمر لم يعتقد ذلك، بل هو في قلبه محب للإسلام والمسلمين، هل لنا أن نكفره؟ نعم، بل يجب علينا جميعاً أن نكفره؛ لأنه نطق بكلمة الكفر مختاراً لها غير مكره عليها، وقد انتفت عنه الموانع كالجنون والسفه والسكر وغير ذلك، أما من نطق بكلمة التوحيد وعمل بمقتضاها، لكنه في نفسه يكره هذه الكلمة، فهل يكون هذا مؤمناً؟
صلى الله عليه وسلم هو عند الله ليس مؤمناً وإنما هو مسلم؛ لأن أحكام الإسلام تجري على الظاهر.
فإذا كانت هذه قاعدة أصيلة عند أهل الإسلام، أي: أن أحكام الإسلام تجري على الظاهر، فإن من أتى عملاً ينقض به إسلامه وإيمانه أجريناه كذلك على الظاهر، ومن المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلمة (ينقص بالمعصية) إشعار بأنه لا ينقض بالمعصية، وهناك فرق بين كلمة: ينقص بالمعصية، وينقض بالمعصية، فينقض يعني: من أصله، فلا يبقى منه شيء، ولعلكم تذكرون نص إبراهيم بن عيينة أخي سفيان لما قال سفيان: الإيمان يزيد وينقص، قال: قل: يزيد، قال: اسكت يا غبي! فإنه ينقص حتى لا يبقى منه شيء، أي: أنه ينتهي تماماً، إما بالقول أو بالاعتقاد أو بالعمل؛ لأن هذه مكونات الإيمان وأركان الإيمان.
وتارة يقول السلف: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان -الجوارح- واعتقاد بالجنان -القلب- وتارة يقولون: قول وعمل ونية، ولهم عبارات لا تختلف عن هذه في معناها.