الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد.
فموضوعنا عن جواز الاستثناء في الإيمان، ومعنى الاستثناء في الإيمان هل للرجل إذا سئل: أأنت مؤمن؟ أن يقول: نعم على القطع واليقين، أم يقول: نعم إن شاء الله؟ فتعليق الإيمان على المشيئة يعبر عنه أئمة السلف بالاستثناء في الإيمان.
الجهمية والمرجئة قالوا: لا يكون الاستثناء في الإيمان، فمنعوه منعاً باتاً.
وحجتهم في ذلك ترجع إلى أصل كلامهم في معنى الإيمان، فهم يقولون: الإيمان هو التصديق، ويعدون أنفسهم أنهم مصدقون، فلِمَ يعلقون هذا الأمر على المشيئة إذا صدقوا؟ وإذا سئلوا: أأنتم مؤمنون؟ يقولون: نعم، دون أن يعلقوا ذلك على المشيئة؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم مصدقون، إذاً ما فائدة التعليق أو ما قيمة الاستثناء حينئذ؟! والجهمية كذلك يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة، فإذا عرفوا الله تعالى فهم مؤمنون كاملو الإيمان، فإذا سئل الواحد منهم: أأنت مؤمن؟ يقول: نعم، ولا يقول: إن شاء الله.
فهذه أولاً حجة الإرجاء.
إذاً: الإيمان عندهم إما تصديق وإما معرفة، والتصديق والمعرفة إما أن يكون بالقلب أو بالقول فيقولون: نحن نوقن تمام اليقين بما وقر في قلوبنا، ونعرف ذلك من أنفسنا، وإذا كان بالقول فالقائل يعلم ذلك من نفسه.
ولذلك ينكرون تماماً أن يعلق المرء إيمانه على المشيئة، أو يستثني في إيمانه إذا سئل: أأنت مؤمن؟ الحجة الثانية لهم: أن تعليق الإيمان على المشيئة من باب الشك، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنك شاك في إيمانك، والإيمان عندهم لا يتصور نقصانه، كما يقولون: نحن نعرف الله تعالى، وهذا قول الجهمية، إذ إن الإيمان عندهم هو المعرفة، والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، فإذا شك المرء في معرفته بالله، أو في تصديقه بالله، فلا يخرج المرء عندهم من التصديق إلا إلى الكفر، ومن المعرفة إلى الجهالة التامة بالله عز وجل، وهذا كفر، ولذلك يقولون: لا يجوز لمسلم أن يستثني في إيمانه أبداً، بل لا بد أن يجزم بأنه مؤمن.
أما أهل السنة والجماعة فيقولون بمشروعية الاستثناء في الإيمان، وأنتم تعلمون أن الأمر المشروع ينقسم إلى: واجب ومندوب، كما أن الأمر الممنوع ينقسم إلى: محرم ومكروه.
ولذلك أهل السنة والجماعة مجمعون على جواز ومشروعية الاستثناء في الإيمان، لكن منهم من أوجب الاستثناء، وبالتالي لا يحل لمسلم أو لمؤمن أن يقول: أنا مؤمن، بل يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلا بد أن يعلق إيمانه على المشيئة أو أن يستثني في إيمانه بالمشيئة.
ومنهم من يقول: الاستثناء جائز وليس بواجب.
إذاً: مدار كلام أهل السنة والجماعة في الاستثناء على المشروعية، لكنهم اختلفوا في الاستثناء: هل هو واجب أو جائز؟ فبعض أهل السنة -كما ذكرنا- قالوا بوجوبه، ومنهم الإمام اللالكائي، وصرح بهذا الرأي هناك، بل بوب في كتابه أصول الاعتقاد: باب وجوب الاستثناء في الإيمان.
أما الإمام ابن بطة فقال: [باب الاستثناء في الإيمان]، ولم يذكر وجوباً ولا جوازاً ولا استحباباً، وإنما سار كما سار الإمام البخاري في صحيحه، إذ لم يكن قاطعاً بحكم المسألة التي بوب لها في الصحيح، حيث قال: باب كذا.
وذكر المسألة، أي: باب خلاف أهل العلم أو باب حكم المسألة التالية، ثم يذكر الإمام الحافظ ابن حجر خلاف أهل العلم في هذه المسألة.
وجمهور أهل السنة والجماعة على جواز الاستثناء في الإيمان، ومرد هذا الجواز إلى أمرين: الأمر الأول: إذا كان القصد من الاستثناء أصل الإيمان الذي يخالف فيه المؤمن الكفار، فلا يجوز حينئذ الاستثناء، أي: إذا كان الجواب بالمشيئة متوجهاً إلى قصد الإيمان بالله عز وجل ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر وبالقدر، فلا يجوز فيها الاستثناء؛ لأن أصل الإيمان إذا زال لا يبقى إلا الكفر.
الأمر الثاني: إذا كان الجواب متعلقاً بحقيقة الإيمان وكماله وتمامه المبني على العمل، فحينئذ يجوز، إذ إن كل مسلم ينبغي عليه أن يتهم نفسه أنه ما أدى حق الله تعالى عليه، فيكون الاستثناء بالأعمال إذ فيها يكون التقصير، أي: أنه يستثني في كونه مؤمناً ولا يستثني في صحة إيمانه.