قال ابن بطة رحمه الله: [وفرض الإيمان على جوارح ابن آدم].
كيف فرض الله الإيمان على الجوارح؟ بالعمل.
قال: [وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، فهذا فرض الله تعالى الإيمان في القلب.
ومنها: اللسان الذي ينطق به، ومنها عيناه التي ينظر بهما، ومنها سمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما، وفرجه الذي يصدق هذا كله أو يكذبه، فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب وتشهد به السنة].
ففرض الله عز وجل على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين؛ وهكذا.
ثم يقول: [وأما ما فرض على القلب فالإقرار]، أي: إيمان القلب يتعلق بالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق، والعقل عن الله والفهم والرضا والتسليم، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب؛ كل هذا عمل القلب.
[فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرنا أدلته ونعيدها الآن: كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
وقال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41].
فذلك ما فرضه الله عز وجل على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، فهو رأس الإيمان، بل هو عمل القلب.
وأما ما فرضه الله عز وجل على اللسان فهو القول والتعبير عما كمن واستقر في القلب، كما قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة:136]]، إذا كان الإيمان محله القلب من جهة التصديق والإقرار والإذعان؛ فإن الإيمان لا بد أن يعبر عما في مكنون القلب بالتلفظ، لما كان قادراً على التلفظ.
[{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [البقرة:136].
وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
وأما ما فرض على السمع: فهو أن يتنزه السمع عن الاستماع إلى الخنا والزنا، وإلى ما حرم الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]]، فأنت مطالب ألا تسمع شركاً، وألا تسمع معصية، وهذا هو الإيمان؛ ولذلك تصور أن رجلاً يغتاب وآخر يشجعه على الغيبة، أليس هذا قادحاً في إيمانهما، منقصاً للكمال الواجب عندهما؟
صلى الله عليه وسلم نعم، بخلاف ما لو قال رجل لجليسه: إن لم تكف عن الغيبة تركتك وانصرفت، فهذا قد نهى عن المنكر وأمر بالمعروف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان.
فلا شك أن المرء كلما عمل عملاً بجارحة من جوارحه يزدد به إيمانه، وكلما قصر في عمل بجوارحه كان من الواجب عليه أن يأتي به نقص إيمانه.
وقال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، أي: فيستجيبون لأحسن الأقوال.
[وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، أي: عن اللهو والزور من القول.
[وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]]، أي: مروراً سريعاً لا يقفون عنده.
فهذا ما فرض الله على السمع: التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له، وهو عمل السمع، وذلك من الإيمان.
وكذلك فرض الله على البصر ألا ينظر إلى محارم الله عز وجل وإلى حرماته، وأوجب عليه أن يغض بصره عما لا يحل مما نهى الله تعالى عنه، كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، فإن لم يفعلوا نقص إيمانهم، هذا هو التقدير.
فنظرك إلى امرأة تسير في الطرقات أو في الشوارع لا شك أن له تأثيراً مباشراً على القلب، وكلنا نشعر بذلك، إذا علق الإنسان نظره على مفاتن امرأة جميلة؛ فإنه يهواها ويشتهيها، وكذلك المرأة تشتهي الرجل وتهواه، فلو أن كل امرأة وكل رجل علم أن هذا مما حرم ال