بيان أن الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

هذا بداية الكلام عن الإيمان، والكلام في الإيمان ومسائله كلام خطير وشائك، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، ومنهج أهل السنة والجماعة في بيان مسائل الإيمان، والفرق بينها وبين مسائل الكفر أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن يعمى على بعض الدعاة وطلاب العلم -ومن ينتسبون إليه بل هم من أهله حقيقة- بعض هذه المسائل، وإن شئت فقل: أصول الإيمان أحياناً مما أوقع شباب الصحوة في حيرة شديدة جداً.

فالإمام ابن بطة -كغيره من أئمة السلف- عقد أبواباً متعددة في بيان ماهية الإيمان، وبيان مسائله، وأعظم مسألة فيه: هل العمل من الإيمان أو ليس من الإيمان؟ وهل هو شرط فيه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل هو شرط كمال أو شرط صحة؟ وإذا كان شرط كمال فهل الكمال هنا المقصود به الكمال الواجب، أم الكمال المستحب؟ وإذا كان الإيمان شرط صحة، فهل يكفر من ترك هذا العمل؟ هذه بعض مسائل الإيمان، وهي أخطر المسائل التي تثار إذا ذكرنا مسائل الإيمان والكفر.

والإمام قد عقد باباً عظيماً جداً في كتاب الإبانة فقال: [باب بيان الإيمان وفضله، وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث]، فقد بوب الإمام بهذا التبويب؛ ليثبت بداءة أن الإيمان قول وعمل، هو قول القلب واللسان، فاللسان ينطق بالشهادتين، والقلب يحب هذه الكلمة ويرضاها ويصدق بها ويذعن لها وينقاد، فهذا قول القلب.

فالإيمان قول، أي: قول باللسان والقلب.

وعمل، أي: عمل القلب والجوارح.

ومنهم من زاد فقال: الإيمان قول وعمل ونية، أي: وإخلاص لله عز وجل، ولا تعارض بين هذا التعريف وبين التعريف السابق: أن الإيمان قول وعمل، والمقصود بكونه قولاً وعملاً، أي: وإخلاصاً؛ لأن القول إذا لم يكن صاحبه مخلصاً لله عز وجل، وكذا العمل؛ فإنه لا يقبل منه، بل يرد عليه، ولكن زيادة (ونية) للدلالة على أن الإخلاص أمر لازم في الإيمان، وأن العبد لا يقبل منه العمل ولا القول إلا إذا كان مخلصاً لله عز وجل.

فقال: (باب بيان الإيمان وفضله)، أي: وفضائل الإيمان، ثم قال: (وأنه تصديق بالقلب) هذه واحدة، (وإقرار باللسان) هذه الثانية، (وعمل بالجوارح والحركات)، أي: الأبدان، وهذه هي الثالثة.

ثم قال: (ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث).

أما قوله: (لا يكون العبد مؤمناً)، فهل يستلزم نفي الإيمان عنه بالكلية، أو أنه أراد بذلك نفي الكمال؟ على تفصيل سيرد معنا بإذن الله تعالى.

قال المحشي: ما ذهب إليه المصنف -وهو ابن بطة - من أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان هو مذهب عامة السلف في الحقيقة، فلم يقل: هو إجماع السلف؛ لأن الأحناف خالفوا في هذا، فكان محقاً أن قال: وهذا التعريف والتبويب أطبق عليه عامة السلف، وخالف بعضهم، وليس في خلافه لعامة السلف حجة، بل كل من خالف السلف في أصل الإيمان ومسائله فقوله مردود عليه.

قال: وهو من شعائر أهل السنة، بل وقع الإجماع عليه، أي: وقع الإجماع على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

قال: بل وقع الإجماع عليه، وحكاه غير واحد، كما في كتاب الأم للإمام الشافعي، قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركنا يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، ولا تجزئ واحدة من الثلاث إلا بالأخرى.

فلو قال قائل: قول وعمل، أي: بغير نية؛ فقوله مردود عليه، ولو قال: قول ونية بغير عمل؛ فمردود عليه، ولو قال: عمل ونية بغير قول؛ فقوله مردود عليه، وهذا معنى قوله: لا يكون مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث.

وفي كتاب الإيمان لـ ابن تيمية نقلاً عن الإمام البخاري أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والمعلوم أن الإيمان لو قبل الزيادة فلا بد أن يقبل النقصان، بل هو قبل أن يكون زائداً كان ناقصاً.

وكذلك الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة قال بعنوان: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

وقد جمع الثلاث، وأثبت أن العمل من الإيمان، ثم أورد عشرات الأدلة على ذلك من الآيات والأحاديث، وذكر ابن جرير في عقيدته بسنده إلى الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز رحمهم الله ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: ل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015