الأحاديث التي تكلمت في هذه الكبائر ونفت الإيمان عن أصحابها لأهل العلم فيها أقوال كثيرة جداً، يعني: حتى أهل السنة ليسوا على اتفاق في تأويل ظواهر هذه النصوص.
وهذه الأقوال هي: القول الأول: يكون بذلك منافقاً نفاق معصية لا نفاق كفر، وأن نفي الإيمان هنا يثبت به النفاق، ولكن ليس النفاق العقدي الذي يخرج به صاحبه من الملة.
وهذا مذهب في الحقيقة غير سليم؛ لأن الزاني ليس منافقاً، والسارق كذلك، والقاتل كذلك، فحمل نفي الإيمان على ثبوت النفاق العملي ليس سديداً.
القول الثاني: أنه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، ولم يستحضر مراقبة الله تعالى ولا إجلاله، وإلا لم يفعل الذنب.
يعني: كأنه أصابته غفلة عن مراقبة الله عز وجل، ولو كان متيقظاً لما أقدم على معصيته.
ولكن هذا الكلام يقال في الورع، ولا يقال في تفسير هذا الحديث أو هذه النقطة.
ويقول هذا المذهب: إن هذا كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة.
القول الثالث: أنه شابه الكافر في عمله، ولا بأس باعتبار هذا الفعل؛ لأنه لا يزني حين يزني وهو مؤمن، يعني: يمكن أن يقال: إن عمله عمل الكافر ولكنه لا يكفر، ولكنه تخلق بأخلاق الكفار، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها).
ومعنى (خبب): أفسد، كأن يتقرب إلى امرأة جاره إلى أن تحبه، ثم تبدأ تتقلب على زوجها وتطلب منه الطلاق، وفي النهاية يتزوجها ذاك الرجل.
وهذا بلا شك من كبائر الذنوب، ولكن لا يكفر بهذا الذنب.
والرأي الأول والثاني ليس لهما أدنى علاقة بالعلم الشرعي والتأصيل العلمي.
ولو علم العبد أنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا يكفيه أن لا ينام بقية عمره، ولو أنك فعلت ذنباً استوجب اللوم أو العتاب أو الضرب أو الطرد من البيت، أو إيقاع الإيلام والعذاب على بدنك، من والدك أو من أستاذك أو ممن له الولاية عليك؛ فلا بد أنك ستبيت واقفاً تفكر ماذا سينزل بك من العذاب من صاحب هذا الحق، فما بالك بالله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، فلو أنك انتهكت حرمة من حرماته فتوعدك أنك صرت بين مشيئتين، يعني: دخولك النار أو الجنة، وليس هناك وعد وإنما هو وعيد، تدخل أو لا تدخل، يعذبك أو لا يعذبك، ولا شفيع يشفع لك ابتداء، وإنما الشفاعة تنفعك إذا دخلت النار، وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لا تنفعك إلا في المحشر، وشفاعة من دونه تنفع بعد ذلك في نار جهنم؛ فإنك ستبيت فرقاً ومرعوباً وخائفاً أن تكون من أصحاب هذا الوعيد، وأن تدخل النار.
ولو كان أحد يتعامل بمنتهى الوحشية والقسوة، ويحرق بالنار أو يضرب بالجريد والنعال، فإنه إذا فعل أحد به ذنباً واستوجب عقاب ذنبه؛ فإنه لا يبيت هانئاً حتى ينزل به العقاب، ثم يعيش بعد هذا العقاب معيشة ذل وهوان.
والله تعالى إنما يعذب بعدل ويرحم بفضل، فإذا كان ذلك منه سبحانه، فينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص على أن تكون أحواله وأفعاله وحركاته وسكناته، بل وأنفاسه كلها طاعة لله ورسوله.
القول الرابع: أن المراد به -أي: المراد ينفي الإيمان- الزجر والتنفير.
القول الخامس: أنه يسلب منه الإيمان حال تلبسه بالكبيرة فقط.
يعني: في وقت ارتكابه الكبيرة.
القول السادس: أن المراد منه النهي وإن ورد على صيغة الخبر.
القول السابع: أنه على ظاهره، ويحمل على من فعل ذلك مستحلاً، ولا بأس بهذا إذا قامت عليه الحجة وعلم الحكم في هذا ولكنه استحل ذلك، فكل مستحل لما حرم الله كافر.
القول الثامن: أن الكفر اللازم عن نفي الإيمان عن مرتكب المعاصي المذكورة إنما هو كفر النعمة.
القول التاسع: وهو أرجح المذاهب، وهو مذهب جماهير علماء الحديث وعلماء السنة؛ أن المراد منه نفي الكمال.
وقد رجحه النووي وتبعه ابن حجر وقبلهما ابن قتيبة وغيرهما من علماء السلف، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية قيداً على ما ذكره هؤلاء، وهو أن المراد نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه.
فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أي: وهو مؤمن الإيمان الواجب الذي إذا تخلى عنه صاحبه استحق الذم واللوم والعذاب.
ولعل أولى التأويلات بالقبول هو القول الأخير، وهو كذلك، وإنما ذهب هؤلاء العلماء إلى القول بنزع كمال الإيمان فقط وليس بنزعه كلية لبقاء أصل التصديق في القلب، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أجمل بيان فقال: ومن أتى الكبائر مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك؛ فلا بد أن يذهب ما في قلبه من الخشية والخضوع والنور وإن بقي أصل التصديق في قلبه.
والعلماء لما قسموا الإيمان إلى مراتب استراحوا ولم يعد في الحديث أي إشكال، فإذا قلنا: إن الإيمان عبارة عن أصل وإيمان واجب وإيمان مستحب، فإن الآيات والأحاديث التي قالت بنفي الإيمان عن مرتكبي الذنوب والتي توعدت بالنار والكفر البواح؛ إنما تعني الإيمان الأصلي.
قال: وهذا في الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي ع