الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، والصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والجهاد من الإيمان، وسائر الأعمال من الإيمان.
فمن الأعمال ما هو أصل في الإيمان، ومن الأعمال ما هو واجب في الإيمان، ومن الأعمال ما هو مستحب في الإيمان.
وهذا يعني أن الأعمال التي هي من أصل الإيمان من تركها فقد خرج من الإيمان بالكلية وصار كافراً؛ كالصلاة على المذهب الراجح، ومن ترك الأعمال الواجبة في الإيمان فإنما أخل بالإيمان الواجب، ومن ترك الأعمال التي هي مستحبة في الإيمان فقد ترك ذروة الإيمان وكماله وتمامه المستحب.
ولذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) أي: فلا يبصر إلا بي، ولا يسمع إلا بي، ولا يمشي إلا بي، فإذا حقق العبد هذه الدرجة وهي الكمال المستحب، يكون قد بلغ ذروة الإيمان وكماله وتمامه، وذلك بأن يأتي بالأعمال المستحبة بعد الأعمال الواجبة والأعمال الأصيلة في الإيمان، فالإيمان بالمقارنة إلى العمل على ثلاث مراتب: إيمان أصلي، ثم إيمان واجب، ثم إيمان مستحب.
ولكل مرتبة من مراتب الإيمان أعمال تخصه، فمن فرط في أصل العمل الذي هو أصل الإيمان فلا يكون مؤمناً قط، بل لا يثبت له الإسلام.
وإذا قلنا: الإيمان قول وعمل، فالقول قول اللسان، بمعنى أن من كان قادراً على النطق بالشهادتين ولم ينطق بهما مختاراً؛ فإنه لا يثبت له إسلام، لأن الإيمان قول وهو لم يتلفظ مع القدرة على القول والتلفظ، ولكنه ترك ذلك مختاراً غير مكره.
والعمل عمل القلب من المحبة والرضا والقيام بمقتضيات هذه الكلمة وغير ذلك، ولذلك لو قال إنسان: لا إله إلا الله، فقد حقق القول، أما قول القلب فمحبة هذه الكلمة والرضا بها، والإيمان والتصديق والإقرار الجازم بها ولو أن ذلك كله انتفى عنده لا يثبت له الإسلام عند الله، ولذلك فالمنافقون في زمن النبوة قالوا كلمة الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم أبغضوا هذه الكلمة، ومع هذا حققوا العمل، فكانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بل ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم عند الله في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد عذاباً من الكفار، أما في حكم الدنيا فهم مسلمون؛ لأنهم نطقوا بكلمة الإسلام ظاهراً.
فالإيمان قول وعمل، هذا القول وهذا العمل هو قول اللسان وعمل القلب وهو يزيد وينقص، فزيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل.
أي: أن سبب زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، ولذلك إذا كان المرء محافظاً على الصلاة في الجماعة، محافظاً على أداء الزكاة، محافظاً على الحج في كل عام إن استطاع ذلك، محافظاً على النوافل وقيام الليل وقراءة القرآن وغير ذلك يشعر أن قلبه يحلق في السماء السابعة، ولو أنه فرط في شيء أو فاتته مثلاً صلاة الفجر وهو معتاد عليها في جماعة، فإنه يقوم في النهار وقد حشرج صدره، وضاق جداً، وشعر بالغم والهم طيلة النهار، وظن أن الدنيا قامت ولم تقعد؛ لأنه شعر بنقصان الإيمان في قلبه بفوات الطاعة التي اعتاد عليها، هذا الأمر يشعر به كل إنسان منا، والإيمان يزداد كما قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
هذه الآية تقول: إن أصل الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان، ولذلك حينما عاب الله تعالى على الأعراب قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هذا الإسلام لا بد أن يكون معه ما يسمى بأصل الإيمان، لأن الإسلام لا يصح للعبد إلا إذا كان معه الإقرار والإذعان والمحبة والرضا.
ولذلك لو أن واحداً نطق بالشهادتين الآن ثم مات بعدها فوراً، نقول إن هذا مسلم معه أصل الإيمان؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بأصل الإيمان، وهي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان، حتى يكون هناك فارق بينه وبين المنافقين؛ لأن المنافق لو شهد بالشهادتين وهو منافق ومات، يكون في النار؛ لأنه قالها نفاقاً.
كما يحدث للروس الآن؛ فهم قد عرفوا أصلاً من أصول الجهاد عند المسلمين، وهو أن واحداً منهم إذا وقع في عداد الأسر في جيش الإسلام نطق بالشهادتين فوراً، فهب أنه نطق بالشهادتين، ولنفترض أنه نطقها نفاقاً، فهو في النار؛ لأنه ما نطق الشهادة عن إيمان، وإنما نطقها نفاقاً، فهناك فرق بينه و