قال رحمه الله: [وذلك أن الناس قد جبلوا -في نقصان عقولهم وحجرها- عن الإحاطة بحقائق الأشياء، والوفاء بالإدراك لكل ما فيه الفائدة والمصلحة، ومن استيلاء شهواتهم واحتكام أهوائهم بعدت عليهم سبل مراشدهم، واستغمضت عليهم مخارج هداياتهم، وذلك موضوع كله في جبلتهم].
يعني: هم مفطورون ومجبولون على هذا.
ثم قال: [فلو وكل كل منهم إلى نظره وفكره ورأيه وتدبيره واختياره فيما يؤثر من السير والمذاهب والشيم والخلائق، لكان واجباً لا محالة أن يظهر عجزه عن كفاية نفسه، وحاجتها من أبواب الرشاد، وإعطائها حظها من دواعي الصلاح الذي فيه رضا خالقها ونجاتها من هلكتها].
يعني: الإنسان بطبيعته يعجز عن أن يقوم تجاه نفسه بما يصلحها في معاشها، الواحد منا أحياناً يختار باباً من الأبواب، أو شيئاً من الأشياء، ويظن بل يعتقد اعتقاداً جازماً أن مصلحته التي ليس دونها مصلحة في الحصول على هذا الشيء، فإذا نظر وقيم هذا الشيء من واقع الشرع علم أنه ليس في صالحه؛ ولذلك يحرمه الله تعالى بفضله ورحمته ومنِّه من الحصول على ذلك الشيء، والواحد منا أحياناً يسعى سعياً حثيثاً إلى نكاح امرأة معينة، ثم يفاجأ أنها خطبت أو نكحت لغيره، فربما يصدم في مشاعره وفي قلبه وفي شهوته وهواه، فإذا ما تزوج بامرأة أخرى فظهر صلاحها ودينها، ونظر هو إلى سيرة المرأة التي كان يحبها آنفاً، فإذا بها في غاية فساد الأخلاق مع زوجها التي تزوجته، فحينئذ يحمد الله عز وجل أن لم تكن هذه المرأة من نصيبه، وعلم الله عز وجل أن هذه المرأة لو تزوجها هذا الذي كان يحبها لكانت سبباً في فساد دينه وانحرافه عن الجادة، فاختار له الخير، لكن من الذي يعلم هذا الخير؟ الله عز وجل، وفر له ما يصلح دينه ودنياه، ولكن هذا العبد لأول وهلة لما فوجئ بأن هذه المرأة فلتت منه أصيب في قلبه، وظن أن الخير كله قد فاته، وإذا بالخير كله قد خزن له في زواج من امرأة أخرى.
وعلى هذا فقس كل حياتك، في واقع عملك، وتجارتك ومصنعك ومالك وأولادك وغير ذلك، ربما يتمنى المرء أن يرزق ولداً جميلاً أبيض، فيرزق بأولاد سود أو عندهم من الدمامة في خلقتهم الشيء الكثير والأُدمة وغير ذلك مما لا يرغب فيهم كثير من الناس، ثم يرزق بالولد الأبيض الجميل، فيكون هذا الولد هو مصدر تعاسته وشقائه، أما الأولاد الذين كره منظرهم ولونهم فهم أبر الأبناء به في كبره، فالله عز وجل علم أن الخير في هؤلاء، وأن الشر في ذاك الولد، فربما يحرم المرء ما يتمنى، ولأجل هذا جعل الله عز وجل لبعض الخلق بنين وبنات، وجعل لبعض الخلق البنات دون البنين والعكس في آخرين، ولم يجعل الله عز وجل لزوجين معينين أولاداً قط؛ لأن الخير فيما اختاره الله عز وجل.
فينبغي الإيمان والرضا والتسليم لقدر الله عز وجل، واعتقاد أن كل قدر الله هو خير كله، ومصلحة كله، وإذا وجد الخير فثم دين الله عز وجل وشرعه.
ثم قال: [فلما علم الله تعالى ذلك منهم كفاهم برحمته ورأفته المئونة] أي لما سبق في علم الله الأزلي مصالح العباد كفاهم ذلك، فاختار لهم.
ثم قال: [وأعظم بلطفه وجوده المعونة، فأمدهم في كتبه وعلى ألسن رسله بوظائف من الأمر والنهي، بين لهم فيها ما يأتون وما يذرون، ووفقهم إلى ما يرتكبون ويجتنبون، ليكون كل أحد من عباده المؤمنين -قويت خبرته في النظر والاختيار أو ضعفت، وكملت آلته في المعرفة والتمييز أو نقصت- معرضاً لحظ يصل إليه من مراشده، ونصيب يتوفر عليه من منافعه، فيكون الجميع منهم في ضمن فضله ورحمته اللذين وسعا كل شيء، كما وصف الله تعالى نفسه فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
ولتكون حجته مع ذلك بالإرشاد والبينة لازمة لكل مأمور ومنهي].
يعني: الله عز وجل لم يخلقنا هملاً، ولم يخلقنا سدى، فإنه لما خلق الله تعالى الخلق أراد أن يقيم عليهم الحجة بمعرفة الخير والشر، فأمر ونهى في كتبه التي أنزلها على رسله، وركب فيك عقلاً تميز به بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين النافع والضار؛ وبهذه الثلاثة الأمور قد أقيمت عليك الحجة، حتى إذا هلكت هلكت عن بينة، وإذا حييت بنور الهدى حييت كذلك على بينة، ولذلك قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] أي: بعد إقامة الحجة عليه: {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] هذه الحجة مصدرها الهدى والنور الذي نزل من عند الله عز وجل في كتبه المنزلة على أنبيائه بواسطة جبريل عليه السلام.
إذاً: عندي الكتاب وعندي الرسول، ولدي العقل، ولذلك لا يكلف إلا العاقل البالغ، أما الصبي الذي لم يبلغ فليس محلاً للتكليف، وكذلك البالغ لكنه غير عاقل لعرض الجنون أو غير ذلك ليس مكلفاً، حتى إذا كان بالغاً عاقلاً مميزاً لا يكون مكلفاً ولا يأثم إذا كان مكرهاً وغير ذلك من الأعذار المانعة للحوق الإثم.
فالله عز وجل نفى عنك الإثم في كل هذا، وأثبت لك الإثم بعد