قال: [وقال أبو عقيل: (قلت لـ أبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج)]، يعني: إذا وقعت الفتنة، [قال: كان لا يقرب لها صفاً ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت.
وعن الفضيل بن عياض قال: الزموا في آخر الزمان الصوامع -يعني: البيوت- فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه، قال: وسمعت الفضيل يقول: حتى متى لا نرى عدلاً يسر به ولا نرى لدعاة الحق أعواناً ثم بكى الفضيل وقال: اللهم أصلح الراعي والرعية.
وعن ابن طاوس عن أبيه قال: لما وقعت فتنة عثمان قال لأهله: قيدوني فإني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلوا عني القيد، الحمد لله الذي عافاني من الذنوب وأنجاني من فتنة عثمان].
يدعي أنه مجنون من أجل أن ينجو من الفتنة، لما شعر بوقوع الفتنة، قال: قيدوني أنا مجنون، وطاوس بن كيسان هو من كبار التابعين، ومن سادة أهل اليمن علماً وعبادة ورواية.
فقيدوه ثم بلغه وهو في القيد أن عثمان قد قتل وانجلت الفتنة، فقال: فكوا قيودي انتهت الفتنة؛ لأنه مأمور أن يكون حلس بيته؛ فعمل بالأمر وترك الناس.
قال: [وعن سيار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن عبد الله بن الأشج: ما فعل عمك؟ قلت: لزم البيت منذ كذا وكذا، قال: أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم].
وهؤلاء من أهل بدر، فيا أخي الكريم! من أنت بجانب أهل بدر؟ هل نحن الآن نصل إلى ما وصلوا إليه؟ هل نفهم أكثر منهم؟ إذا كانت المسألة مسألة أفهام وعقول، فهل عقولنا مقدمة أم عقول أهل بدر؟
صلى الله عليه وسلم عقولهم وأفهامهم مقدمة على أفهامنا، فضلاً عن وجود الأوامر النبوية باعتزال الفتن فهؤلاء أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).
فهؤلاء مع تقدمهم وعلمهم وإخلاصهم في الصحبة وبلائهم البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا سمعوا بفتنة لزموا بيوتهم حتى تنجلي.
قال: [فالفتن على وجوه كثيرة، ودروب شتى، قد مضى منها في صدر هذه الأمة فتن عظيمة نجا منها خلق كثير عصمهم الله فيها بالتقوى، وجميع الفتن المضلة المهلكة المضرة بالدين والدنيا فقد حلت بأهل عصرنا، واجتمع عليهم -مع الفتن التي هم فيها التي أضرموا نارها وتقلدوا عارها- الفتن الماضية والسابقة في القرون السالفة، فقد هلك أكثر من ترى بفتن سالفة وفتن آنفة، اتبعوا فيها الهوى، آثروا فيها الدنيا؛ فعلامة من أراد الله به خيراً، وكان ممن سبقت له من مولاه الكريم عناية، أن يفتح له باب الدعاء باللجاء والافتقار إلى الله عز وجل بالسلامة والنجا، ويهب له الصمت، إلا بما لله فيه رضا، ولدينه فيه صلاح، وأن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بأهل زمانه، مقبلاً على شأنه، قد ترك الخوض والكلام فيما لا يعنيه، والمسألة والإخبار بما لعله أن يكون فيه هلاكه، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، فإن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقاً كثيراً، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه، وأشغلهم بدينه، وأتركهم لما لا يعنيه.
[وقال سفيان: لما قتل الوليد بن يزيد، كان بالكوفة رجل يكون بالشام وأصله كوفي، سديد عقله، فقال لـ خلف بن حوشب لما وقعت الفتنة: اصنع طعاماً واجمع بقية من بقي، فجمعهم، فقال سليمان بن مهران الأعمش حينئذ للضيوف: أنا لكم النذير، كف رجل يده، وملك لسانه وعالج قلبه].
أي: أنا اليوم أنذركم، كفوا ألسنتكم، وأمسكوا بأيديكم، وعالجوا قلوبكم.
أي: لا تدخلوا في هذه الفتنة.
قال: [وقال سليمان بن عتيق لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من نور الله، رجاء ثواب الله].
انظروا إلى تفسير التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله -أي: على بصيرة- ترجو ثواب الله.
قال: [وأن تترك معاصي الله، على نور من الله؛ خوف عقاب الله].
إذاً: التقوى فعل وترك؛ فعل للطاعة ببصيرة وعلم، ترجو بها ثواب الله، وترك للمعصية لعلمك أنها معصية، وهذا هو النور من الله، تخاف عقاب الله عز وجل.
قال: [وقال سعيد بن جبير: قال لي راهب: يا سعيد! في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت]، يعني: الفتن هي المحك.
قال: [وقال معقل بن يسار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كالهجرة إلي)].
والهرج: هي الفتن، فأن يلزم إنسان بيته في الفتنة، وأن ينشغل بطاعة الله تعالى: بقراءة القرآن والذكر والتسبيح والصلاة وغير ذلك، وأن يهجر هذه الفتنة؛ يكون كمن هاج