ولما كان هذا أخطر أمر وأعظم وباء يمكن أن ينزل في المجتمع المسلم بأسره؛ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث، ففي حديث [شداد بن أوس أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة)] يعني: لتتبعن سنن من كان قبلكم.
أي: هديهم وأخلاقهم وطريقتهم في كل شيء مهما دق وجل، فإنكم تبحثون عنه وتنقبون عنه وتعملون به، وتتركون سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر زائد عن البدع، أي: هو فوق البدع بدرجات، فالتخلق بأخلاق الأمم السابقة لابد أنها أمم الكفر؛ لأنه ليس هناك أمة مسلمة على وجه الأرض بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: من الكفار.
وفي رواية: (فارس والروم يا رسول الله؟! قال: ومن الناس إلا هم؟) يعني: هؤلاء الذين تقلدونهم أنتم، أما فارس فقد أسلموا على عوج، وأما الروم فأسلموا ثم خرجوا، حتى صارت الروم الآن دار كفر بعد أن كانت دار إسلام أو شبه دار إسلام لإسلام معظم أهلها في وقت من الأوقات، ولكنها رجعت دار كفر، كما كانت تركيا كذلك دار إسلام في يوم من الأيام، ولكنها بسقوط الخلافة العثمانية التي اتخذت تركيا مقراً لها ثم سقطت سنة (1924م)، ورجعت مرة أخرى تركيا دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.
فالصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لتتبعن سنن الناس حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟)؛ لأن هاتين الدولتين أعظم مملكتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، قوة فارس وقوة الروم، وكانوا يقولون: هما قوتان لا تغلبان، والنبي عليه الصلاة والسلام، بل القرآن الكريم ذكر بأن هذه القوى قوى هشة لا تثبت أمام جحافل الإيمان وقد كان هذا غير مرة.
فهنا لا أقول: فارس والروم الآن؛ لأن الروم الآن صارت ضعيفة أمام القوى العظمى، فقد كنا كذلك نقول: أعظم قوتين في العالم هم الروس والأمريكان، فسقطت الروس، وانشقت إلى دويلات كثيرة بعضها أضعف من بعض، حتى كاد زعيم الروس الأعظم أن يبحث عن عمل يتكسب منه قوت يومه.
وما هذا إلا لتعلموا أن الأمور كلها تجري بمقادير الله عز وجل، وأن الله تعالى يذل من يشاء ويعز من يشاء، فهذه الدولة التي لم يكن أحد يتصور أنها تنهزم أو تضعف في يوم من الأيام، إذا بها تكون أمة ذليلة في ركاب أمريكا، ولا تزال القوة باقية في أمريكا، لكنها قوة تستند إلى الكفر كذلك، وتعتمد على الضلال، بل تقبل بالكفر والضلال والانحراف عن منهج الله سبيلاً لها، وأسطولاً لها، وسنة الله تبارك وتعالى الكونية أبت أن تكتب البقاء والنصر المؤبد لأمثال هؤلاء.
فأمريكا في قبضة الله عز وجل، إذا شاء الله تعالى أن يذلها أذلها، في وقت لا يمكن لأحد أن يذكرها ولو بزلزال أو بركان، وهذا بإذن الله عز وجل، كما أن كل شيء بيده سبحانه وتعالى.
فهذه القوة أنا أعتقد أنها قابلة للانهيار في أي وقت من الأوقات، كما أن من زار هذه البلاد أو هذه الولايات، ورأى ما فيها من فساد، علم يقيناً أن عمر أمريكا الافتراضي أوشك على الانتهاء.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: إذا انهارت أمريكا كما انهارت روسيا من قبلها، بل وانهارت أوروبا كلها، فما هي الأمة القوية، وبأي شيء تتقوى؟ هل هي أمة الإسلام؟ أم تنهض أمم الكفر مرة أخرى؟
صلى الله عليه وسلم أن كل أمة رسمت لها الدساتير لتقوى بها، وقد قويت وقامت، وبين أيدينا دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكننا فرطنا فيه، ومعذرة إذا عبرت عن القرآن والسنة بالدستور وهو اللفظ الدارج وإن كنت لا أحبه.
فهنا الأمة الإسلامية ملكت مقومات الحضارة، ومقومات السيادة والريادة، ولكنها تخلت إما بفعلها وإما رغماً عنها؛ ولذلك ترى الآن المسلمين حكاماً ومحكومين على السواء يأبون ويرفضون أن يحكموا وأن يساقوا بأحكام الشرع، ليس هذا في الحكام فحسب، وما دامت الدفة في صالحك فإنك تقبل الإسلام على العين والرأس، وإذا كان الإسلام حاكماً عليك فإنك تهرب منه مهما طالت حياتك، ومهما طال انتظارك للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية المزعومة.
ولذلك وقع في الأمة من البلاء والفساد ما لا يمكن لعاقل أن يتصور معه تمكين هذه الأمة في يوم من الأيام، والله تعالى وعدنا، وقبل أن يعد شرط علينا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ونصر الله تعالى بالتزام شرعه، وما دمنا أبعد الناس عن شرع الله فلن ننتصر، فاليهود والنصارى درسوا كتاب الله تعالى، ودرسوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما علموا أنه المنهج القويم الذي من تمسك به قام وثبتت أقدامه في الأرض، عملوا بالدين الإسلامي في الوقت الذي تخلينا نحن فيه عن دين الإسلام.
ولذلك هم الآن رواد لنا، وكثير من المسلمين يعتبرون اليهود والنصارى -وإن شئت فقل بلاد الغرب- القدوة