قال: [وأما الخلاف بين الصحابة والتابعين فقد قال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني لو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لم تكن رخصة].
وهنا كلام كبير جداً ذكره الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم، حيث إنه ذكر باباً عظيماً جداً وهو الباب الرابع والخمسون فقال: جامع بيان ما يلزم الناظر في اختلاف الفقهاء.
وذكر بعد هذا الباب مباشرة: باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب، وأنه يلزم طلب الحجة عنده، وذكر بعض ما خطأ فيه بعضهم بعضاً، وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم.
وكأنه يريد أن يقول: إن الخلاف بين الفقهاء ليس على نسق واحد، وهم كذلك موقفهم من الخلاف ليس واحداً، بل هم أصحاب مذاهب، وهما المذهبان السابقان، فبعضهم يقول: الحق واحد لا يتعدد، ولا بد أن يصحح أحد الرأيين ويخطأ الرأي الثاني.
وبعضهم يقول: بل الخلاف راجح ومرجوح.
والشاهد من هذين البابين أنه ذكر الأدلة الكثيرة التي لا ترد على أن الخلاف أحياناً يكون معتبراً بقسميه، ويكون الأمر فيه راجحاً ومرجوحاً.
ومعنى ذلك: أن الخلاف صواب فيما يتعلق بوقوعه في بعض المسائل كما ضربت لكم مثلاً بالصلاة ببني قريظة، إذ لو كان أحد الاجتهادين خطأ لما سكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام ولبينه؛ لأن الأمر لا يحتمل التأخير في البيان، فلما سكت دل على أن ما وقع منهما مع الاختلاف كله صواب، وعليه فيجوز تعدد الحق.
وبعضهم قال: الحق واحد، ولا بد من الذهاب إلى أحد الرأيين ورد الثاني، واستشهد بمسائل قد اختلف فيها أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وأنكر بعضهم على بعض.
فهذه الأدلة فعلاً أخطأ فيها المخالف، وإني لا أسرد نفس الأدلة بعد أن أحلتك إلى الباب الرابع والخمسين والباب الخامس والخمسين من جامع بيان العلم وفضله، وإن ذهبت إلى هناك وقرأت هذين البابين لوجدت علماً غزيراً جداً.
قال: [اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران العلم، فجعل عمر ربما جاء بالشيء يخالف به القاسم، فجعل ذلك يشق على القاسم، فتبين ذلك لـ عمر -أي: علم عمر أن حججه قوية، فربما شق ذلك على القاسم وغضب وتغير- فقال له عمر: لا تفعل فما أحب أن لي باختلافهم حمر النعم].
أي: أن اختلاف الصحابة إجمالاً أحب إلي من حمر النعم؛ لأن عمر يرى أن اختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة.
قال: [وقال المعلى بن إسماعيل: ربما اختلف الفقهاء وكلا الفريقين مصيب في مقالته].
فاختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كان مبناه على فهم الدليل فلا شك أنه رحمة، أما إذا كان أحدهما فهم فهماً خالف فيه الدليل ظاهراً وباطناً فلا شك أنها ليست رحمة، بل لا بد من ثبوت خطئه، وأيضاً لو قرأت البابين اللذين أحلتك إليهما لوجدت أدلة ذلك.
قال: [وقال أبو عون: ربما اختلف الناس في الأمر وكلاهما له الحق].