قال الشيخ ابن بطة: [وكذلك اختلف الفقهاء من التابعين -أي: إذا كان الخلاف وقع في زمن الصحابة فمن باب أولى أن يقع فيمن أتى من بعدهم- ومن بعدهم من أئمة المسلمين في فروع الأحكام، وأجمعوا على أصولها، وتركت الاستقصاء على شرحها لطولها، فكل احتج بآية من الكتاب تأول باطنها، واحتج من خالفه بظاهرها، أو بسنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان صواب المصيب منهم رحمة ورضواناً، وخطأه عفواً وغفراناً؛ لأن الذي اختاره كل واحد منهم ليس بشريعة شرعها، ولا سنة سنها، وإنما هو فرع اتفق هو ومن خالفه فيه على الأصل، كإجماعهم على وجوب غسل أعضاء الوضوء في الطهارة كما سماها الله في القرآن].
أي: أنهم أجمعوا على وجوب غسل الوجه، فليس هناك أحد من علماء المسلمين قال: ليس غسل الوجه شرطاً في صحة الوضوء.
قال: [واختلافهم في المضمضة والاستنشاق، فبعضهم ألحقها بالفرائض، وألحقها الآخرون بالسنة].
إذاً ستقول: إذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد أمر بوجوب غسل الوجه، فلم وقع الخلاف إذاً؟
و صلى الله عليه وسلم أن هذا اختلاف في الأفهام للنص، فلو كان هناك واحد فهم النص فهماً بعيداً جداً لا يمكن أن يحتمله النص؛ فسنقول: هذا الفهم خطأ، ولا يمكن أبداً أن يساعده الدليل، فاستنباطه للنص بهذا الفهم خطأ؛ لأن النص لا ظاهراً ولا باطناً يشهد له، لكن لو كان الاجتهاد يحتمله النص، فحينئذ يكون هذا الخلاف معتبراً، والخلاف المعتبر لا إنكار على المخالف فيه، وإنما ينكر على الخلاف غير المعتبر.
وهو وجهان: الوجه الأول: أنه خلاف مع النص، أو خلاف ضد النص.
والوجه الثاني: أنه خلاف لا يحتمله النص.
فبعد أن أجمع علماء المسلمين على وجوب غسل الوجه في الوضوء؛ اختلفوا في المضمضة والاستنشاق: فبعضهم قال: المراد: ظاهر الوجه دون باطنه، ثم اختلفوا: هل باطن الأنف وباطن الفم من الوجه أم من غير الوجه؟ واعلم أن العلماء لم يختلفوا على جواز المضمضة والاستنشاق، وإنما اختلفوا في التكليف الشرعي للأمر هل هو الوجوب أم الاستحباب؟ فبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق مستحبان؛ لأنهما ليسا من الوجه، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية قد بينت أنه كان يتمضمض ويستنشق، لكن لم يرد أن ذلك كان على سبيل الإلزام والحث، فيبقى الأمر على الاستحباب.
وبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق واجبان، أي: أن الأنف والفم باطنهما من الوجه، ومما يؤيد ذلك استمراره عليه الصلاة والسلام على المضمضة والاستنشاق، ولو لم يكونا من الوجه لتركهما النبي عليه الصلاة والسلام ولو مرة واحدة.
فالكلام الأول وجيه لا نرده، والكلام الثاني أوجه، وهو الذي يحتمله النص احتمالاً ظاهراً.
لكني أريد أن أقول: إن الخلاف في أن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه اختلاف يحتمله النص، ولذلك وقع الاختلاف بينهم بعد أن أجمعوا على وجوب غسل الوجه.
قال: [وإجماعهم على المسح على الخفين، وهذه مسألة من المسائل العلمية، وقد دخلت في مسائل الاعتقاد لمخالفة فرقة من فرق الضلالة لأهل السنة والجماعة، ثم صارت علماً على فرقة من فرق الضلال وهي الشيعة.
ولما اتخذتها الشيعة ديناً لهم كان لزاماً الرد عليها من قبل أهل السنة والجماعة، إذ إنها من مسائل الاعتقاد ومن مسائل العمل في آن واحد.
والإجماع حاصل عند أهل السنة والجماعة على جواز المسح على الخفين، لكن الاختلاف وقع في كيفية المسح: هل المسح على ظهر الخف فقط، أم على ظاهره وباطنه؟ والراجح في هذه المسألة: هو المسح على ظاهر الخف؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان المسح على أسفل الخف أولى؛ لأنه مماس بالأرض أو بالنجاسة أو ما يمكن أن يكون كذلك.
وأما الذين قالوا: المسح على ظاهر الخف وباطنه، فربما لم يبلغهم ذلك، أو ربما قالوا بالمسح على باطن الخف من باب الاحتياط والاحتراز، مع علمهم بحديث علي بن أبي طالب، وربما قالوا بالظاهر والباطن جمعاً بين الرأيين.
ثم اختلف القائلون بالمسح على ظاهر الخف وباطنه في الكيفية، فبعضهم قال: الماسح يضع كفيه في الماء فيضع مؤخرة كفه عند أطراف أصابعه من فوق، ويده اليسرى في باطن كفه على هذا النحو والنسق، ثم يجريهما حتى يرتفع بها.
ورأي آخر عندهم يقول: إنما يضع طرف أصابع يده اليمنى على أطراف أصابع رجله، وأما يده اليسرى فتكون من فوق الكعبين، ويمشي بهما على شبه دائرة، يعني: يضع أطراف أصابعه على قدمه هكذا ويده الشمال في مؤخرة القدم، ويأتي بهما هكذا مسحاً.
وبإمكاننا أن نقول في هذه القضية: خطأ وصواب؛ لأن الاختلاف إما معتبر، أي: راجح ومرجوح، وإما خطأ وصواب، لكن العذر أن المخطئ قوله مرجوح لموافقته للأصول، وما وقع منه الاختلاف إلا في فرع من الفروع التي لا يبدع بها ولا يتهم.