قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: قد ذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، وتحذيره أمته ذلك، وحضهم إياهم على الجماعة، والتمسك بالسنة -وهذا قد سبق في الأبواب السابقة- وقلت: إن ذلك هو أصل المسلمين، ودعامة الدين -أي: التمسك والاعتصام بحبل الله المتين- وأن الفرقة الناجية هي واحدة، والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة -أي: كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين) - ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضاً فيها اختلاف كثير، وتباين في المذاهب، ونرى فقهاء المسلمين مختلفين، فلكل واحد منهم قول يقوله، ومذهب يذهب إليه وينصره، ويعيب من خالفه.
فـ مالك بن أنس رحمه الله إمام، وله أصحاب يعملون بقوله، ويعيبون من خالفه، وكذلك الشافعي، وكذلك أبو حنيفة، وكذلك أحمد بن حنبل، كل واحد من هؤلاء له مذهب يذهب إليه وينصره].
لكنه يزيد فيقول: ويعيب من خالفه، ولم يثبت عن واحد من هؤلاء الأئمة أنه عادى من خالفه، لكن هذه الكلمة كالسم، وضعها لأجل أن تأخذها وتبني عليها الآمال في تساوي الاختلاف بين هؤلاء الأئمة، وبينهم وبين غيرهم من أهل البدع، فيقول: هذا اختلاف وذاك اختلاف، ولما وقع بين هؤلاء الخلاف فما المانع أن يقع بينهم مجتمعين وبين غيرهم ممن ينسبون إلى البدعة! فيهون بعد ذلك الخلاف الناجم بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع.
لذا لا بد أن تعلم أن الخلاف الذي وقع بين هؤلاء الأئمة إنما هو خلاف في الفروع لا في الأصول، فأصولهم في الاعتقاد والدين والشريعة واحدة، وإنما وقع الاختلاف بينهم في فروع الأحكام خاصة، وهذا الخلاف محل نظر عند العلماء، ولهم فيه مذهبان سنتعرض لهما في هذا الباب.
وأما أن يكون الاختلاف واقع بين هؤلاء الأئمة المتبوعين في أصول الدين والشريعة؛ فليس الأمر كذلك، فالذي يعاب على أهل البدع ليس هو اختلافهم فيما يتعلق بفروع الشريعة؛ لأنه من نوع اختلاف علماء المسلمين، وإنما الذي يعاب عليهم، واستوجبوا به النار خلافهم لكتاب الله عز وجل، ولسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإجماع المسلمين فيما يتعلق بأصول الدين لا بفروعه.
فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فالصحابة -وهم أعلم الناس بالخطاب النبوي، وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام- لما لم يصلوا إلى بني قريظة حتى كاد وقت العصر أن يخرج ويدخل وقت المغرب؛ اختلفوا: فبعضهم قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل ذلك على سبيل الأمر والإلزام، وإنما من باب الخبر والبشارة أننا سندخل بني قريظة قبل صلاة المغرب.
وبعضهم قال: نلتزم ظاهر النص، فلا نصلي العصر إلا في بني قريظة وإن دخل وقت المغرب.
فالذي أخذ الأمر على ظاهره لم يصل العصر إلا في بني قريظة بعد دخول وقت المغرب، والذي اعتبر أن هذا الكلام ليس أمراً وإنما هو خبر والمراد البشارة؛ صلى العصر في آخر وقته، ثم إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أنكر وعنف أحد الفريقين، وإنما أجاز هؤلاء على ما فهموه، وأجاز هؤلاء على ما فهموه.
وهذا يدل على أن الاختلاف جائز، وأن الاختلاف سائغ، وما وقع الاختلاف إلا لاختلاف عقول المجتهدين، أي: أن النص واحد والاجتهاد فيه متعدد، وكل اجتهاد في النص مقبول، فهؤلاء لما حملوا الأمر على ظاهره كان كلامهم مقبولاً لا يرده أحد، ولذلك لم ينكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء لما فهموا فهماً آخر من النص، فهم لم يجتهدوا مع النص، وإنما وقع اجتهادهم في فهم النص، ولذلك فالاجتهاد عند أهل العلم نوعان: الاجتهاد مع وجود النص، والاجتهاد في فهم النص، فالثاني جائز؛ بل هو فرض كفاية، والأول باطل؛ لأنه لا اجتهاد مع النص.
والشاهد: أن هذا الخلاف مرده إلى أصل من الأصول وهي السنة، وإذا اختلف المجتهدان فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة، وعند البخاري من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلم يجرمه ولم يؤثمه؛ لأنه إنما تعمد الحق واجتهد في الوصول إليه فأخطأ، فهو يأخذ أجر الاجتهاد وإرادة الحق.
وأما الأول فإنه أخذ نفس الأجر، وأجراً زائداً وهو إصابة الحق، والكل من عند الله عز وجل، فهذا أصاب من عند الله، وهذا لم يصب من عند الله بقدر كوني.