إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: تناولنا في الدروس الماضية قضية مهمة جداً، وهي: أن المرء لا يتدخل فيما لا يعنيه، ودرس اليوم متمم لما مضى من أعمال، وهو يتعلق باختيار الصاحب والصديق، والهروب من أبناء السوء، وأصحاب البدع والأهواء.
ولأهل العلم من السلف كلام في غاية الروعة والجمال في هذا الباب، وكثير من الناس يتصورون أنه لا يضرهم أن يصاحبوا مبتدعاً، أو أن يتلقوا عن مبتدع، أو يناظروا مبتدعاً أو غير ذلك، مع أن هذا من أكثر أبواب الضلال والفساد التي يمكن أن تواجه طالب العلم، ولعل من الشبهات أن أهل العلم الكبار بعد أن حذرونا أيما تحذير من مصادقة ومجالسة أهل الأهواء والبدع؛ نراهم قد جالسوهم وناظروهم، وبينوا لنا عقائدهم الفاسدة وغير ذلك.
فالجواب على هذه الشبهة: أن لأهل العلم الكبار المتثبتين ما ليس لغيرهم من الطلاب الصغار المبتدئين، ففي الوقت الذي يحذرنا فيه أهل العلم من مجالسة أهل الأهواء، أو الإصغاء إليهم، أو إلقاء السمع أو غير ذلك؛ نجدهم يناظرون أهل الأهواء والبدع ويفضحون أمرهم، ويكشفون سترهم من باب النصيحة للأمة، ومن باب التفريق والتمييز بين الحق والباطل.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يحذر من دراسة الفلسفة والمنطق، مع أنه قد طالع كثيراً في كتب الفلسفة والمنطق.
وله قول شهير مشهور: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق، مع أنه سيد أهل المنطق في زمانه، وإنما تعلم ذلك لتثبته وقوة حجته وتسلحه بالعلم، فلم يكن يخشى عليه الاطلاع في كتب القوم، حتى ولو اطلع في كتب السحر ليرد على السحرة أمرهم؛ فإن هذا أمر جائز ومشروع له، وأما غيره من الطلاب المجتهدين فإن ذلك فيه خطورة عظيمة جداً عليه، وربما انقلب المرء رأساً على عقب من أول الطريق.
فهذا الباب يبين مذاهب السلف في هذه المسألة، وهو باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان.