قال الشيخ ابن بطة: [وعسى ضعيف القلب، قليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه].
هنا يجلي ابن بطة رحمه الله حقيقة أمر صبيغ ويقول: إن المستمع لما وقع في القضية من أمير المؤمنين ربما يقول: هذا ظلم، فلماذا يضرب عمر صبيغاً وصبيغ لم يعد كونه سائلاً عن آيات في كتاب الله عز وجل؟ فهل الذي يتفقه في دين الله يقابل بالإنكار والضرب والإهانة والحمل على قتب بعير بغير جرم؟! إن الذي فعله أمير المؤمنين ظلم لا يليق بمقام الخلافة، فالمؤلف يريد أن يزيل الإشكال الذي يدور في ذهن ورأس المستمع لهذه القصة، فبين رحمه الله حقيقة الأمر وأن صبيغاً لم يكن سائلاً متفقهاً، وإنما كان يسأل سؤال المتعنت، ولذلك صبيغ لم يعهد عليه أنه سأل عما ينفعه من العلم، وإنما يسأل عن المتشابهات.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سأل أحدهم عن المتشابهات -أي: في كتاب الله عز وجل- فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم).
فقوله: (فأولئك الذين سمى الله) أي: الذين يسألون عن متشابه القرآن، ويتركون الفرائض والأركان التي لا يسعهم جهلها، فهؤلاء هم الزائغون الذين ذكرهم الله تعالى في مطلع سورة آل عمران، فاحذروهم.
فـ عمر لما بلغه أن صبيغاً بالبصرة إنما يسأل عن المتشابهات فحسب؛ دعا عمر الناس لتناول الطعام عنده، فقام إليه رجل بعد أن فرغ من الطعام يسأله عن المتشابهات، فقال: أنت هو؟ أي: الذي بلغني خبرك، فقام إليه عمر وضربه؛ لا لأنه يسأل عن العلم أو عن تفسير القرآن، وإنما لأنه يسأل عن المتشابهات ويترك المحكمات.
قال ابن بطة: [لعل أحدكم إذا سمع هذا الخبر دخل في نفسه شيء مما فعله أمير المؤمنين بـ صبيغ، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها لا أن يوجع ضرباً، وينفى ويهجر ويشهر به!] يعني: أهذا جزاء من طلب العلم؟! هكذا ربما دخل في نفس السامع.
ثم قال رحمه الله: [وليس الأمر كما ظن السائل الذي لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم أجمعين؛ ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرض الله عز وجل عليهم].
يعني: هذه كانت رحلة الناس من أقطار الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى الخلفاء الراشدين، وإلى أئمة العلم في الدين؛ لأجل أن يتعلموا أصول الدين، وما لا يسعهم جهله؛ لأن هذا هو الذي خاطبهم الله عز وجل به في كتابه، وسار عليه سلف الأمة.
ونحن نقول كلمة أحرى بنا أن نقف عندها مرات ومرات، خاصة في زمن كادت أن تهدم فيه الثوابت، وتزعزع فيه المحكمات، وتصير في قلوب العامة من المتشابهات، بل بعض المحرمات.
نقول: إننا نؤمن بما آمن به النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، على فهم السلف، وكلمة: (على فهم السلف) هي كلمة تحتاج منا إلى وقفه، فهي كلمة عظيمة جداً، ولذلك لا يسعنا قط أن نقول بشيء أو أن نعمل شيئاً، أو أن نعتقد في دين الله شيئاً إلا وقد آمن به واعتقده السلف، وعمل به السلف، ومن عمل بغير ذلك أو اعتقد غير ذلك فإنما يعتقد ويعمل على غير ما كان عليه سلف هذه الأمة.
فتمسك السلف بشيء إنما هو عصمة لمن أتى بعدهم، فالسلف لم يسألوا عن هذه المتشابهات، وإنما آمنوا بها وأمروها كما جاءت بغير سؤال، وإن بدا منهم سؤال فإنما سألوا عنه للتعلم والتفقه في كلام الله عز وجل، وفي كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأما أن يسأل الشخص عن شيء على سبيل التعنت والإحراج وغير ذلك؛ فهذا الشخص لا بد أنه مريض لا يصلح لطلب العلم.
ولذلك خشي الأئمة من السلف ومن أتى بعدهم من وجود أمثال هؤلاء في وسط العامة؛ لأنهم بإشاعة هذه المتشابهات لا بد أنهم يفسدون دين العامة، ولذلك عمل السلف رضي الله عنهم على استئصال شأفة هؤلاء، فـ صبيغ كان يسأل عن هذه المتشابهات، فضربه عمر بالجريد على رأسه حتى سال منه الدم، حتى قال صبيغ يعلنها صراحة: يا أمير المؤمنين والذي نفس صبيغ بيده لقد ذهب الذي كان في رأسي.
فهذا صبيغ يعترف أنه لم يكن يسأل تعلماً، وإنما سأل من باب إشاعة الشبهات، وزعزعة الثوابت في قلوب العامة، وجعل ما هو ركن ركين في دين الله ليس ركناً في قلوب العامة.
قال: [فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يع