الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا أول درس مع كتاب جديد من كتب السنة المسندة.
السنة عند الإطلاق تعني: المخالفة للبدعة، أو مقابلة البدعة، فإذا قرأنا كتاب السنة لفلان، فمعنى ذلك أنه يذكر مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة بأدلتها المسندة، وكتاب الإبانة للإمام ابن بطة عليه رحمة الله هو من هذا الباب، بل هو من أوائل من صنف في عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو العقيدة السلفية التي تمتاز عن غيرها من العقائد من أوجه عدة، منها: أن هذه العقيدة نبعها ومرتكزها هو الكتاب والسنة، أي: أن عقيدة السلف مردها ومرجعها إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وسار على منوالهم ونهجهم بقية علماء الأمة ممن نحا نحوهم، فمن مزايا العقيدة السلفية أن مصادرها هي المصادر الأصيلة التي لم يختلف عليها أحد، ولن يختلف عليها أحد بإذن الله إلى قيام الساعة.
ومن مزايا العقيدة السلفية: أنها عقيدة رسخت بمفهوم النبوة لكتاب الله عز وجل، ومفهوم الصحابة، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين نقلوا إلينا معتقد النبي عليه الصلاة والسلام في ربه وأسمائه وصفاته، وبقية مسائل الاعتقاد التي خالفوا فيها أهل الأهواء والزيغ والضلال، ولذلك: كل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا الكل يقول: أنا سني أو أنا سلفي، أو نهجي قائم على الكتاب والسنة، وكم من صاحب بدعة إذا احتج احتج بقال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل يتصور أن صاحب البدعة يخرج علينا ويقول: أنا مبتدع، أنا زائغ، أنا ضال؟ لا يكون هذا منه، وإنما يقول: أنا مرتكزي ومصدري فيما أقول هو كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هيهات هيهات أن تصح دعوى أو يستقيم طريق لأحد، إلا لمن أخذ طريقه عن السلف رضي الله عنهم.
الكل يقول: أنا منهجي القرآن والسنة؛ لكن بفهم من؟ هذا هو مناط البحث، ليس مناط البحث أن تأتي بقول أو فكر أو فهم أو تأتي له بشاهد من الكتاب والسنة، ولكن مناط البحث أن تأتي من أقوال السلف بمن سبقك إلى هذا الفهم لهذه الآية أو لهذا الحديث، حتى تعلم أن القضية ليست بالدرجة الأولى الاعتماد على النص، بقدر ما هي الاعتماد على فهم السلف رضي الله عنهم لهذا النص.
وهذا أمر أردت بيانه حتى ينتبه الناس أن طريق السلف يعني مفهوم السلف للكتاب والسنة لا مفهوم الخلف، وسيأتي معنا الفرق بين السلف والخلف، إما من جهة الزمان وإما من جهة كيفية الاتباع.
ثم عقيدة السلف من أعظم ثمارها أنها السبب في توحيد صف المسلمين، فهذه العقيدة لا تدعو إلى التفرق، بل تدعو إلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وفي ذلك روايات وأحاديث كثيرة.
وما تفرق المسلمون منذ الصدر الأول إلا بعد ظهور الفرق الضالة، كالقدرية والمعتزلة وغيرهم من أصحاب الأهواء والملل والنحل، فلما ظهرت هذه الفرق تفرق المسلمون إلى فرق وجماعات شتى، فعقيدة السلف إنما هي أصل الاعتقاد، بل لا يصح اعتقاد غيرها عند الله عز وجل.
كما أن من مزايا عقيدة السلف أنها مرتبطة على مر أيامها وسنينها بآبائها وأجدادها من أهل القرون الخيرية الأولى المشهود لهم بالخير، والمشهود لهم بالفهم والعلم والبركة والاحتياط والورع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فعقيدة السلف تعني أن تقتدي بآبائك أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين المشهود لهم بالكفاءة في الدين.
وفي التمسك بعقيدة سلف الأمة آثار كثيرة جداً، ويكفينا وحسبنا في هذا المقام أن نقول: إن أهل العقيدة الصحيحة هم الناجون من النار نجاة أبدية، حتى لو عذب بعض المعتقدين بعقيدة السلف بسبب ذنوب قد اقترفوها، فإنه لابد خارج من النار ومخلد في الجنة بإذن الله عز وجل، ولذلك لما عدد النبي عليه الصلاة والسلام فرق النصارى واليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين كلها في النار) ولم يستثن إلا واحدة، قيل: (يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وهم الذين على عقيدتنا اليوم التي لا خلاف عليها، وكيف يكون الخلاف والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أسسها وقعدها رجوعاً إلى كتاب الله عز وجل وإلى وحي السماء.
فهذه بعض مزايا العقيدة السلفية، وإن كانت كلها مزايا وفضائل وشمائل ومناقب؛ لكن ليس هذا عنوان بحثنا، إنما نتكلم اليوم عن الإمام ابن بطة وعن كتابه المعروف بالإبانة، وله كتابان: الإبانة الصغرى والإبانة الكبرى، وهذان الاثنان عرف بهما ما صنفه هذا