اختلف أهل العلم من هم الجماعة؟ فقيل: هي جماعة الإمام الأعظم، أي: جماعة الخليفة ومن معه من الناس، وقيل: هي السواد الأعظم من الناس، وقيل: هي جماعة العلماء والمجتهدين، سواء كان معهم العامة أو ليس معهم العامة، وقيل: هي جماعة الصحابة على جهة الخصوص؛ لأنهم معصومون بعصمة الله لهم من الوقوع في إحدى هذه الفرق الضالة، فلما كانوا معصومين على هذا النحو الذي ذكرت استحقوا أن يكونوا هم الجماعة الذين تتمثل فيهم القدوة والأسوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم من كانوا على الحق وإن قلوا، ولذلك يقول ابن مسعود: الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك.
والنبي عليه الصلاة والسلام بمجرد أن أرسله الله عز وجل قبل أن يدخل أحد في دينه كان وحده هو الجماعة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه كان في زمانه وحده على الحق وهو جماعة، فقد كان الحكام والأمراء والعلماء وغيرهم من الكبار والصغار في زمن أحمد من المعتزلة، وقد حدا هذا ببعض أهل العلم أن يذهب إلى أحمد في بيته ويقول له: يا أحمد! أنت تقول: إن ما نحن عليه هو الباطل، وأن ما أنت عليه هو الحق، فلو كان ما نحن عليه هو الباطل فلِمَ أظهره الله على الحق؟ فقال أحمد: ومن قال لك بأنكم ظاهرون؟ ألا تدري أن الظهور هو انتقال القلوب من الحق إلى الباطل؟ قال: وقد انتقلت.
قال: ومن قال لك إنها انتقلت؟ أما أنا فقلبي مطمئن بالحق الذي هو عليه.
أي: يريد أن يقول له: ولو كانت القلوب كلها تحولت إلا قلباً واحداً فقط لم يتحول فإنه الحق، وإنه الجماعة.
وهذه الفتنة كانت في القرن الثالث، والإمام أحمد مات سنة (241هـ)، فهو يريد أن يقول له: أنا وحدي على الحق، ثم سرعان ما زال الباطل ولم يصمد أمام رجل واحد، والذي حارب المعتزلة في زمان أحمد هو الإمام أحمد فقط، والأمة كلها اعتبرت الإمام أحمد هو الذي كان على الحق في زمانه، والأمة بأسرها أو في مجموعها كانت معتزلة، ومع هذا ثبت الله تبارك وتعالى أحمد رحمه الله حتى ظهر دين الله عز وجل.
وقد جاءه شخص مشفق عليه يقول له: يا أحمد! قل هذه، وما الذي تخسره؟ فنظر أحمد إلى الآلاف التي وقفت في المشهد، وقال له: إن هذه المحابر تنتظر هذه الكلمة، يعني: تنتظر أن تزل قدم أحمد في هذا الموقف، فضحى أحمد بنفسه لأجل سلامة أمة، فاستحق أن يكون الصديق الثاني للأمة كما سماه بعض أهل العلم.
قال أحمد: فعبر رجل النهر ودخل علي، ولا أحد منهما يعرف الآخر، وفي طريقه إلى أحمد كان يسأل: أين أحمد؟ فدلوه على الإمام أحمد في السجن، حتى وصل إلى أحمد فقال: يا أحمد! اثبت؛ فإنك على الحق، وما هو والله إلا سوط واحد ولا تشعر بشيء بعده.
فالقضية قضية دين ودعوة وشرع، وقضية أن تذهب بنفسك وتبقى أمة وتعلو راية، فلا تكن أنت أول من يسقطها، ولا أول من يضيع العلم، ولا أول من يضيع الأمة، وأنت لو ذهبت فإنك تذهب إلى رب كريم.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.