أما سبب تأليف الكتاب فيقول الإمام في مطلع نسخته: [أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء، ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الأيام- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المفترون بتمويهاتها، وكساها الزائفون والجاهلون حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل بنا الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، ووقع أكثرنا في الذي عنه نهينا -يعني: وقعنا فيما نهينا عنه- وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلة الإيمان، وانكشف الغطاء وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء، واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة، وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة -والزناد هي ذلك الرمح الذي يقلب به- فاضطرمت نيرانها، أي: كما أنك لو أوقدت ناراً ثم خمدت فإذا ضربت مادة هذه النار والوقود بعصا تأججت النار مرة أخرى، هكذا قال: وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، أي: زادت.
[وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف -يعني: نحن شر خلف لخير سلف- وعظمت البلية، واشتدت الرزية، فظهر المبتدعون وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحنة، بعد أن كان أمرهم هيناً، وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك -أي: وأقحم نفسه- في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا إليه مسرعين من كل قاصية، فالبسوا شيعاً وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة، والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله، وصدودهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فاشتعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضية، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار، ورويت فيهم الآثار].
وهذا في القرن الرابع فما بالك لو رأى زماننا هذا.
نكتفي بهذا القدر من بيان حال المؤلِف والمؤلَف كذلك، ثم نقف عند أول أثر من آثار هذا الكتاب في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.