قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: أدركت أبا الدرداء ووعيت عنه، وأدركت عبادة -أي: ابن الصامت - ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل، فأخبرني يزيد بن عميرة أنه كان يقول في مجلس يجلسه: الله حكم قسط -أي: عدل- تبارك اسمه، هلك المرتابون -أي: الشاكون في ذلك- إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟ ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره].
انظروا، يعني: أنه ينتشر تيار العلم حتى يقرأ القرآن من لا يستحقه؛ لأنه ما قرأه إلا لأجل أن يتصدر به المجالس، أو يترأس به الناس، أو ليتشرف به الزمان، أو ليحصل بالقرآن على ملذات الدنيا وشهواتها، وأنتم تعلمون أن هذه الكراسي فتن، وهي التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام، فقديماً كانت تعلم إمامة الرجل بعلمه وتقواه، فلم تكن هناك مناصب ولا كراسي ولا مسئوليات إدارية وغير ذلك، وإنما أعطي أحمد بن حنبل الإمام بعلمه وتقواه رحمه الله، وكذلك الشافعي وكذلك مالك وسفيان والبخاري ومسلم وغير واحد، بل هم ألوف مؤلفة في كل عصر من عصور سلفنا، كيف عرفت إمامة هؤلاء؟ هل لأنهم تولوا مشيخة الأزهر؟ أو لأنهم كانوا نواباً لرئيس الدولة، أو كانوا قضاة وأمراء؟ لم يكن من ذلك شيء، بل إنهم كانوا يفرون من ذلك فرارهم من الأسد، بل كانوا يعتبرون أن عملهم الذي كان سراً إذا ظهر على الناس كان ذلك من باب الرياء، وكان الواحد منهم إذا أراد أن يعمل لله عملاً أسره، فإذا اطلع عليه إنسان أخذ عليه العهود والمواثيق ألا يتكلم بهذا إلا بعد أن يموت إن أراد أن يتكلم، وبذلك كافأهم الله تعالى بحسن إخلاصهم بمن يبرز لنا بعد موتهم ما قدر رأوه من إخلاصهم وعملهم وعبادتهم.
أما الآن فالرجل تُعرف إمامته كذلك بدينه وعلمه وتقواه وصلاحه، لكنه قد أبى قوم إلا أن يقتحموا أبواب السلاطين؛ تارة للرياسة، وتارة للرفعة، بزعمهم أن الرياسة والرفعة في طرق أبواب السلاطين، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ومن اقترب من السلطان افتتن)، أي: وقع في الفتنة، فسار الواحد منهم على الجادة والاستقامة في قوله وعلمه وعمله، حتى إذا تولى منصباً من هذه المناصب الزائلة غيَّر دينه واتبع هواه، وانقلب على أهل الصحوة يسبها ويلعنها، ويدعي أن أهلها خوارج العصر.
أقول: قد سمعنا من جل هؤلاء قبل تولي المناصب أننا خيرة الشباب، ولم تشهد العقود الماضية صحوة كما شهدها هذا العصر، وهذا بشهاداته وبشهادة المخلصين فيه إلى يومنا هذا، ولكن المنصب يغير القلوب ويغير النفوس؛ خاصة لمن أراد أن يحافظ على هذه المناصب.
ويكفينا فخراً أن هذه الصحوة إنما هي محض فضل الله عز وجل على هذه الأمة، فليس لأحد من البشر في هذا البلد فضل على هذه الصحوة، بل ابتداءً من شيوخ الأزهر السابقين إلى الشيخ الحالي لا يجرؤ واحد منهم وممن دونهم في هذه المناصب أن يدعي أن له فضلاً على الصحوة لا من قريب ولا من بعيد، بل استمدت هذه الصحوة قوتها وثباتها وتأييدها ونصرتها على أهل الباطل من الله عز وجل أولاً، ثم من العلماء الربانيين العاملين لله بتقى، سواء كانوا من أهل البلد أو من خارج البلد، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، سواء كانوا أمهات أو بنات، إنما وقف بجوار هذه الدعوة أناس من أهل العلم يريدون أن يعملوا لله عز وجل، لم تحركهم إلى ذلك شهرة ولا نسب ولا حسب، وإنما تحركوا بفضل الله عز وجل لإعلاء راية الإسلام.
إن أصحاب هذه المناصب من أهل العلم نحن نقر لهم بالعلم، ومن سلب العلم عنهم فإنما نطق بالباطل وأعان على الظلم، لكن الواحد منهم إذا دعي إلى محاضرة تثور حافظته ويجن جنونه إذا لم يحضر أحد لسماعه، فإذا دعي غيره من العاملين على الساحة حضر المئات بل الألوف واجتمعوا عليه؛ لما يعلمون من صدقه من قلوبهم، ولما علموا عليه من استقامة وحسن التزام.
فالأمور لا تطلب بعلم فحسب، فإن مؤهلات القبول بيد الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه، ثم نادى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله تعالى فلاناً أمر جبريل أن يبغضه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، ثم لا يوضع له القبول في الأرض).
إذاً: القبول بيد الله عز وجل، ولا علاقة له بغير الله.
قال: (قال: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟) أي: ما بالهم لا يجتمعون علي وقد تعلمت القرآن وتعلمت تفسيره وتأويله وناسخه ومنسوخه وغير ذلك مما يختص بالقرآن الكريم.
قال: (ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع